طرابلس اليوم

الأربعاء، 15 نوفمبر 2017

الأزمة الليبية وتداعياتها على السودان

,

السنوسي البسيكري

مقدمة

تحفظت الخرطوم في تعاطيها مع التطور الحادث في ليبيا خلال الأسابيع الأولى من الانتفاض ضد نظام القذافي، فبرغم تضرر السودان من نظام القذافي إلا أنه كان حريصًا على توطيد العلاقة معه، لكنه عالج موقفه لصالح دعم وافر للثوار وتعاون أمني مع المجلس الانتقالي والحكومة المؤقتة. وارتبط التحول الجذري لموقف السودان بصدور قرار مجلس الأمن بحماية المدنيين؛ حيث سارع للاعتراف بالمجلس الانتقالي وأسهم بالمتاح في دعم الثوار. واستمر التنسيق السوداني مع الثوار حتى سقوط النظام الأمر الذي حدا بالرئيس البشير إلى التصريح بأن الثوار دخلوا طرابلس بتخطيط وسلاح سوداني.

الموقف السوداني بعد الانقسام السياسي في ليبيا

أربك الانقسام السياسي الناجم عن الصراع بين شركاء ثورة فبراير/شباط 2011، في النصف الثاني من عام 2014 الخرطوم في تعاطيها مع الأزمة الليبية.

انتهجت الخرطوم مسارًا براغماتيًّا في مقاربتها للوضع الجديد، بمعنى أنها وهي تبحث عن حليف ربما يتبنى المشروع الإسلامي كانت لا تفصل ذلك عن مبدأ المحافظة على العلاقات الإيجابية مع ليبيا بأي طرف ترجحت كفته في الصراع. لذلك، نجد أن الحكومة تواصلت مع المؤتمر الوطني العام بعد عودته إثر سيطرة قوات فجر ليبيا على العاصمة، واستقبلت وفدًا من حكومة الإنقاذ التابعة للمؤتمر، إلا أنها اقتربت من البرلمان وحاولت تطوير علاقتها مع الحكومة التابعة له باعتبار أن البرلمان الجسم الشرعي المعترف به دوليًّا، لكنها لم تجد الحفاوة التي بحثت عنها، بل تحولت الخرطوم إلى عدو في نظر البرلمان والجيش التابع له حيث وصفها قائد عام الجيش منذ الأيام الأولى لإطلاق عملية الكرامة بالدولة العدوة الداعمة للإرهاب.

توجه الخرطوم حيال اتفاق الصخيرات

أثرَّت الضغوط التي مارسها البرلمان والحكومة والجيش التابعان له على الخرطوم؛ الأمر الذي جعل دورها هامشيًّا تجاه الأزمة الليبية. فقد اقتصر دورها على المشاركة في اللجنة السباعية الإقليمية التي ضمت دول جوار ليبيا، والتي تم التعارف على تسميتها “آلية دول جوار ليبيا”.

وظل الموقف السوداني من اتفاق الصخيرات ثابتًا منذ توقيعه وهو تأييده والتنسيق عبر آلية دول الجوار للمساهمة في تنفيذه من خلال تشكيل حكومة فاعلة تحافظ على وحدة البلاد وتفرض الاستقرار. لهذا حرصت الخرطوم على التقرب من المجلس الرئاسي الليبي، أعلى سلطة تنفيذية في البلاد، ودعت رئيسه لزيارة السودان.

ويمكن القول: إن الخرطوم وجدت في اتفاق الصخيرات ما يساعدها على تخطي العقبات التي تراكمت بعد الانقسام السياسي؛ إذ لم يعد للحكومة المؤقتة في البيضاء التي ناصبت السودان العداء أية شرعية، ويسمح الاتفاق السياسي الموقَّع في الصخيرات، في حال نجاحه، بفتح صفحة جديدة في العلاقات الليبية-السودانية.

أما فيما يتعلق بالتوجه الاستراتيجي للحكومة السودانية تجاه ليبيا بعد الاتفاق السياسي فقد لخصه وزير الخارجية السودانية، قريب الله الخضر، بالتركيز على هدفين استراتيجيين في ليبيا:

العمل على إيجاد مؤسسات قوية تستطيع الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية.

الحيلولة دون تقديم أي طرف ليبي الدعم أو الإيواء لحركات التمرد الدارفورية، بما يهدد الأمن القومي.

وعلى هامش الهدفين الاستراتيجيين تأتي ملفات أخرى مثل الهجرة غير الشرعية، والجريمة العابرة كما وصفها الرئيس السوداني، عمر البشير، في مؤتمر صحفي جمعه برئيس المجلس الرئاسي الليبي، فايز السراج، في أغسطس/آب 2017 بالخرطوم.

البشير أكد في المؤتمر الصحفي أنه لا أجندة خاصة للسودان في ليبيا، وكلامه يتضمن ردًّا على الاتهامات التي كيلت للخرطوم بدعم الإرهاب في ليبيا من قِبَل رئيس الحكومة المؤقتة التابعة للبرلمان، عبد الله الثني، وقائد عام جيش البرلمان، خليفة حفتر.

ومثَّلت زيارة السراج للسودان محطة مهمة في العلاقات الليبية-السودانية بعد اتفاق الصخيرات ولصالح الخرطوم، فقد كثَّف السراج تنقله خلال السنة الأولى من تسلمه منصبه باتجاه القاهرة وأبو ظبي، ومن الممكن أن تكون زيارة السودان في إطار سياسة التوازن خصوصًا وأنها جاءت بعد التراشق بين الخرطوم وطبرق، وردَّ البشير على تصريحات حفتر بأن الأخير يشكِّل خطرًا على السودان.

أيضًا، لا يُستبعد أن يكون من أهداف قبول دعوة البشير للسراج لزيارة السودان إظهار الامتنان للحكومة السودانية على دورها البارز في مراقبة الحدود بين البلدين ومواجهة السيل القادم من وسط وجنوب قارة إفريقيا عابرًا في بعض مساراته السودان لليبيا ومنها إلى شواطئ إيطاليا، وبحث سبيل تعزيز ذلك، فهو من الملفات التي تقض مضجع حكومة الوفاق باعتبار أنه يأتي في مقدمة أولويات الأوروبيين في تعاطيهم مع الشأن الليبي، وبالتالي يخفف من الضغوط التي تمارسها بروكسل على المجلس الرئاسي.

تداعيات الأزمة الليبية على السودان

عبَّر الرئيس، عمر البشير، عن الترابط بين السودان وليبيا بأن ألم الثانية يؤلم الأولى، وسعادتها تنعكس عليها، ويلخص هذا الوصف تداعيات الأزمة الليبية على السودان والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

تداعيات اقتصادية.

تداعيات أمنية.

فالسودان يعتمد بدرجة كبيرة على عوائد العاملين في الخارج من أبنائه، وتمثِّل ليبيا متنفسًا كبيرًا لما يزيد عن المليون سوداني يعملون في مجالات عدة، وقد تأثرت أوضاع السودانيين في ليبيا بدرجة كبيرة بالأزمة الليبية خاصة بعد تفجر الصراع بين عمليتي الكرامة وفجر ليبيا؛ حيث شهد السودان نزوحًا عكسيًّا كبيرًا؛ الأمر الذي حرم السودان من مورد مالي مهم، وضاعف من العبء الاقتصادي والاجتماعي للحكومة بعد عودة مئات الآلاف من السودانيين لبلادهم.

على المستوى الأمني، تحصر كافة التقارير الخطر الذي يهدد السودان في ملف التهريب والجريمة العابرة ونشاط حركات التمرد السودانية في ليبيا، وهو سوء تقدير للمخاطر سننوِّه لخطئه لاحقًا.

وبالعودة إلى ملف نشاط حركات التمرد السودانية في ليبيا، تشير معلومات مؤكدة إلى أن حركة تحرير السودان، وهي إحدى الحركات التي تحارب حكومة السودان في دارفور بزعامة أركو مناوي، نقلت قواتها إلى الداخل الليبي، لتقاتل هناك لصالح خليفة حفتر.

أيضًا، كان لمجموعة مسلحة تنتمي لحركة العدل والمساواة دور أساسي في مناورات حفتر في وسط وجنوب وسط البلاد، وقد أسهمت هذه المجموعة في السيطرة على حقول وموانئ النفط في رأس لانوف والبريقة خلال عام 2016، وأصبحت تؤمِّن خطًّا يمتد نحو 300 كم على الساحل من مدينة البريقة إلى ما بعد مدينة ابن جواد حتى ضاق بها السكان ذرعًا وتم تحييدها من خلال ضغوط وإغراءات من قبل خصوم حفتر الذين أنشؤوا قوة، تسمَّت باسم “سرايا الدفاع عن بنغازي” نجحت مؤقتًا في طرد قوات حفتر من الموانئ والحقول.

التغيير الديمغرافي في الجنوب الليبي وأثره على السودان

يظهر أن الجنوب الليبي من أكثر المناطق تأثرًا بشكل سلبي بالانقسام السياسي، فقد حظي كل من الغرب والشرق بحكومة تتوافر لها بعض الإمكانيات المالية؛ الأمر الذي خفَّف قليلًا من التداعيات السالبة على بنيتها وعلى مواطنيها.

الوضع مختلف في الجنوب حيث وصل مستوى العيش إلى أسوأ حالاته؛ إذ تُقطع الكهرباء عن المدن لأيام وحتى أسابيع متواصلة، ويعاني من وضع اقتصادي أكثر حدة مما عليه في الغرب والشرق، كما تسوء الأوضاع الأمنية بدرجة أكبر هناك.

من التهديدات الكبرى التي يواجهها الجنوب الليبي والتي يمكن أن يكون لها أثر سلبي على السودان هو التغيير الديمغرافي الذي يشهده الجنوب لصالح مكون ثقافي إثني على حساب المكونين الآخرين؛ فمنذ اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011، لعب مكوِّن “التبو” دورًا بارزًا في تأمين الجنوب وحماية حقول النفط، كما شكَّلت كتائبهم سدًّا يمنع التفاف قوات القذافي من الجنوب باتجاه المناطق الشرقية شمالًا.

هذا الدور المهم جعل للتبو مكانًا مميزًا في الخارطة السياسية والعسكرية خاصة في جنوب البلاد، لكن بعض قادة وعناصر التبو يتجهون بهذا الحضور اتجاهًا يمكن أن يشكِّل خطرًا على المكون وعلى وحدة البلاد في المستقبل؛ إذ يتحدث سكان مناطق الجنوب خاصة المدن الرئيسية، سبها وأُباري، عن سيطرة لقوات تبو كثيرٌ من عناصرها ليسوا تبو ليبيين، وإنما هم من المجموعات القادمة إلى ليبيا من تشاد.

ودخلت تلك المجموعات في قتال مع المكونين الآخرين، وهما: العرب والطوارق؛ حيث شهدت السنوات 2013، 2014، 2015 مواجهات متقطعة لكنها عنيفة بين التبو وأولاد سليمان، وهي القبيلة التي أصبحت أكثر نفوذًا في أهم مدن الجنوب بعد 2011، وبين التبو والطوارق والتي لم تتوقف إلا بدخول دول إقليمية وأطراف دولية على خط الصراع.

كثير من سكان الجنوب اليوم يتحدثون عن إقبال كبير من بعض الفاعلين التبو على شراء العقارات من مناول ومزارع في الجنوب وبأسعار مغرية، فقد دفعت ظروف الاقتتال وانتشار الجريمة والسطو المسلح وأيضًا تدني الخدمات كثيرًا من سكان مدن الجنوب إلى الهجرة شمالًا وشجعهم على ذلك ما يُعرض عليهم من مقابل سخي لأملاكهم.

والخلاصة، أن عامل قوة السلاح وقوة المال يمثلان أداتين قد تقودان إلى تغيير كبير في التركيبة السكانية للجنوب ربما يقودها توجه تباوي له طموحاته في سيطرة أكبر ونفوذ أكبر وربما وطن مستقل في المستقبل، وهذا لا يشكِّل فقط خطرًا على وحدة البلاد، بل خطرًا على دول الجوار وفي مقدمتها السودان.

عِظَم التحدي وضعف الموقف السوداني

تمثُّل ليبيا بعدًا استراتيجيًّا للسودان، سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا؛ فاستقرار السودان وتوتره تأثر بتوجهات النظام في ليبيا. فقد كان للنظام الليبي السابق دور كبير في الاضطرابات والحروب التي شهدها السودان خلال عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات، ويعتبره السودانيون مساهمًا بدرجة كبيرة في تحويل مجموعات التمرد في جنوب السودان إلى جيش منظم، ويرون أن له يدًا في اضطرابات دارفور.

وأمام التحديات الجديدة التي تشكلها ليبيا بعد اشتداد الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية، تبدو الخرطوم مجردة من أدوات احتواء التداعيات الحاضرة بقوة.

ومن أبرز التحديات:

طبيعة منظومة العلاقات الإقليمية التي تمثُّل أساسًا للسياسة الخارجية السودانية والتي يبدو أنها تلقي بظلالها على الأزمة الليبية مما يحد من دور السودان في توجيه رياحها لصالحه.

العلاقات التاريخية السودانية-المصرية حاضرة بقوة عند بحث الخرطوم عن دور في ليبيا، خاصة أن مصر متورطة سياسيًّا وأمنيًّا في الأزمة الليبية. أيضًا العلاقة مع دول الخليج وفي مقدمتها المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة، فهذه تشكِّل روافد اقتصادية مهمة للسودان لا يمكن تخطيها، ومعلوم الدور السعودي/الإماراتي في توجيه دفة الأحداث في ليبيا.

هناك أيضًا “الوصمة” التي تلاحق النظام السوداني منذ سيطرته على مقاليد الحكم نهاية ثمانينات القرن المنصرم، وهي علاقته الخاصة بالتيارات الإسلامية واتهامه من قِبَل أطراف دولية وبعض دول الجوار باحتضان المجموعات المتشددة ودعم الإرهاب. فهذه لها أثرها الواضح على موقف الخرطوم من الصراع بين كتلتي الكرامة وفجر ليبيا؛ حيث تصنَّف الثانية بأنها كتلة إسلامية أو يتصدر قياداتها متدينون.

العامل الأخر الذي يحول دون لعب السودان دورًا بارزًا في الأزمة الليبية هو الوضع الداخلي المأزوم نسبيًّا والذي كان من أبرز مظاهره الاستفتاء على انفصال الجنوب ونتائجه والذي وقع في سنة اندلاع ثورة فبراير/شباط، وكان من أبرز نتائجه تراجع العوائد المالية، ثم الصراعات التي وقعت بين الفرقاء الجنوبيين والتي مست السودان بشكل مباشر، هذا بالإضافة إلى نزاع دار فور وبعض التوترات الأخرى.

مركز الجزيرة للدراسات

التدوينة الأزمة الليبية وتداعياتها على السودان ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “الأزمة الليبية وتداعياتها على السودان”

إرسال تعليق