طرابلس اليوم

الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

السياسة الشرعية (2)

,

شكري الحاسي/ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

إنَّ من خصائص السياسة الشَّرعية في منطلقاتها  ؛ الواقعية ، بل هي أخص سماتها بلا شك . فالواقع هو مجالها الفسيح الذي تتحرك فيه ، وتتغير وتتلون معه !! ؟ وهذا ليس عيباً  كما يفهمه كثير من الجهلة . فالمنفعة هدف أصيل تسعى الشَّريعة إلى تحصيله ، والحرص عليه عى  مستوى الفرد والأمة ، في ظل الضوبط والمسوغات الشَّرعية ، وهذا فارق رئيس بين البرغماتية في نظر الشَّريعة ومقاصدها ، وبين غيرها من البرغماتية ؛ الَّتي لا تتقيد في منطلقاتها بحلال ، ولا حرام أصلاً . وهذا فارق أصيل بين المفهومين . فمن عُرف عنه العمل ، والسعي لخدمة الدِّين والشريعة ، وأخطأ فإنَّ خطؤه  مغفور لا مأزور دون غيره ممن هو لا يقيم وزناً لتلك المبادئ ، والقيم من أساسها ، وشتان بين الفريقين . فالاول يدخل تحت قوله : -()-  (( إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ))  وهذا ماعبر عنه ابن تيمية قديماً في بيان حديثه عن المتولي للإمارة ، بقوله : ” تَوَلَّاهَا شَخْصٌ قَصْدُهُ بِذَلِكَ تَخْفِيفُ الظُّلْمِ فِيهَا . وَدَفْعُ أَكْثَرِهِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِ ؛ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا مَعَ هَذِهِ النِّيَّةِ ، وَكَانَ فِعْلُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَةِ بِنِيَّةِ دَفْعِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا جَيِّدًا . وَهَذَا بَابٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ ”  وَفِي موطن آخر يحدد أنَّ السياسة الشَّرعية بل الشَّريعة في مقصدها الأوَّل والأساسي؛ هو جلب المصالح وتكميلها ، ودفع المفاسد وتقليلها ، فيقول :  ” أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَأَنَّهَا تُرَجِّحُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَتَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا فَنَقُولُ : قَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَفْعَالِ وَاجِبَةٍ وَمُسْتَحَبَّةٍ ؛ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مُسْتَحَبًّا وَزِيَادَةً . وَنَهَى عَنْ أَفْعَالٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ وَالدِّينُ هُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَهُوَ الدِّينُ وَالتَّقْوَى ؛ وَالْبِرُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَكَذَلِكَ حَمِدَ أَفْعَالًا هِيَ الْحَسَنَاتُ وَوَعَدَ عَلَيْهَا وَذَمَّ أَفْعَالًا هِيَ السَّيِّئَاتُ وَأَوْعَدَ عَلَيْهَا ، وَقَيَّدَالْأُمُورَ بِالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ ، وَالْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ   وَقَالَ تَعَالَى :  لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ  وَقَالَ تَعَالَى :  وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا  ”  وهذه من أعظم القواعد التي أصَّل لها علماء الأصول ؛ وهي العلم بالحكم ، والقدرة على الإتيان به وتنزيله على الواقع المتراكم بالعقبات ، والمؤثرات والتحديات . مع علِمنا بتفاوت الواقع من حيث زمانه ، ومكانه وحجم تحدياته ، وهذا ما عاشه القرآن الكريم من حيث خطابه ، وتنزيل أحكامه ، وتنوعها واختلافها ؛ من حيث الزمان والمكان وطبيعة كل مرحلة ، وما يعتريها من أحوال . حتَّى إنَّ خطاب القرآن الكريم العالي السند والشرف ؛ جاء مواكباً لطبيعة المراحل ، فكان القرآن المكي وطبيعته والمدني ومتغيراته من حيث طبيعة المكلفين ، قالت أم المؤمنين- عائشة-  (( إنَّما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل ، فيها ذكر الجنَّة والنَّار حتَّى إذا ثاب النَّاس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أو شيء : لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً ولو نزل : لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبداً )) رواه البخاري . وهذا ما استدل به الخليفة الراشد-عمر بن عبدالعزيز – على ابنه عبدالملك في تعامله مع الواقع المُستًجًد والمختلف عن سابقه . قال ابن تيمية في ذات السياق مخبراً عن التعارض :  ” فَالتَّعَارُضُ إمَّا بَيْنَ حَسَنَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ فَتُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمَا بِتَفْوِيتِ الْمَرْجُوحِ ، وَإِمَّا بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُمَا ؛ فَيَدْفَعُ أَسْوَأَهُمَا بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَإِمَّا بَيْنَ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ لَا يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ فِعْلُ الْحَسَنَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ السَّيِّئَةِ ؛ وَتَرْكُ السَّيِّئَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَرْكِ الْحَسَنَةِ ؛ فَيُرَجَّحُ الْأَرْجَحُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْحَسَنَةِ وَمَضَرَّةِ السَّيِّئَةِ . ”

وما يجب أن يُتنبه إليه في التَّعامل مع الواقع الحالي بصفة خاصة ؛ هو أنَّ للحاكم و الممفتي والفقيه ؛ أن يأخذ بالعزيمة  في حق نفسه ، لكن لا ينبغي له ذلك ؛ في الشأن العام وحقِّ الأمة دون مراعاة لمآلات الأمور ، وعواقبها ؛ لأنَّ

نتائجها غيرالأولى . وعليه نرى مراجع الفقه تعج بأحكام الإكراه ، والاستضعاف ، وهذا ما أدركه الفقيه الراشد-عمر بن الخطاب- حينما علَّق حكم المؤلفة قلوبهم ، وكذلك حد الردة ؛ لتغير الواقع ، وماصلح الحديبية عنا ببعيد والذي يعُده كُتَّاب السير ، الفرقان الثَّاني بعد بدر ؛ وذلك لما ترتب عليه من فتح ونصر أعز الله به دينه . ونزل قوله تعالى : إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا       وهذا مالايدركه حتَّى قطاع كبير من المشتغلين بالعلم الشَّرعي ، حينما لا يدركون طبيعة المرحلة ؛ وبناءً عليه تختل الفتاوى من حيث التنزيل فيحكمون للصحيح بحكم المعلول ، والمعلول بحكم الصحيح . وهوتنزيل فتاوى وأحكام مرحلة القوة والتمكين ، عىا مرحلة الضعف والهوان والصغار .

إنَّ الإخلال بهذا الفقه،  والتَّمعن فيه ؛ يُفضي إلى مخاطر عظيمة ومزالق جسيمة تُفقد النَّاس الثَّقة في صلاحية الإسلام من أصله في قيادة دولة ، فضلاً عن قيادة أمة !!!؟

التدوينة السياسة الشرعية (2) ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “السياسة الشرعية (2)”

إرسال تعليق