طرابلس اليوم

الاثنين، 11 ديسمبر 2017

وجه آخر…

,

الهادي بوحمرة/ أكاديمي ليبي

يشك في كل شيء، يطرح علامات استفهام عقب الأحاديث والأحداث، لسان حاله يقول إنه ينظر للأمور بشكل مختلف، إنه الأذكى والأعمق تفكيرا، وإنه ليس كغيره، وإنهم يحملون أسفارا، لا يمدح أحداً، كلماته بقدر، قليل ما يبادر، وأغلب كلامه رد على سؤال أو تعقيب مختصر على نقاش، كثير من قوله مفيد عند التدبر فيه، لكنه يأتي متأخراً، يفتح ضمادات عن جروح، يرسل منبهات صادمة، دائما يستدير إلى الخلف، لا يجيب على كيف يكون؟.. وإنما ما كان كان يجب ألا يكون.

سبب ما حدث بين المبروك وفاطمة أن ارتباطهما لم يكن مدروساً، خطأ على أن جعل من عائلة محمد أخوالا لأبنائه، مصباح تسرع في شراء المنزل، كان عليه أن يسأل عن مالكه السابق، عمر خدع عند بيعه للأرض التي توارثها أجيال قبل أن تصل إليه، صلح العائلتين جرى بشروط مجحفة، من قام به لا يعرف تفاصيل النزاع.

من يريد ألا يندم على ما قام به، عليه بكتمان أمره عنه، وإلا فإنه سيأكل أصابعه ندماً على معركة دخلها لم تكن واجبة، فما يبدو أنه كسب، هو- عند التعمق فيه – خسارة، أو على تنازل قدمه لم يكن في محله، أو على ابن سمح له بأن يسلك دربا وفق إرادته قبل أن يعرف قدراته، أو ما كان عليه أن يلج باب التجارة، فأجداده لا يعرفون إلا الزراعة والرعي والكتاتيب، أو أن ما يقول إنه استثمار لمال، هو مضيعة له، وسيدرك في قادم الأيام سوء رأيه وفساد تدبيره.

لسان حاله يقول: كثيرٌ من أعمالهم كانت مضيعةً للوقت، أو كان يجب ألا تكون  على هذا النحو، أو أن مآلها الخسران، المسجد ما كان يجب أن يكون هذا مكانه في الحي، والحي ما كان يجب أن يكون هذا مكانه في القرية، وكان على أسلافهم أن يختاروا موطناً غير هذا الموطن.

عقله يبحر في الماضي، يفككه، يحلله، يحاول هدمه، أما المستقبل فلا يوليه اهتماماً، تراه يسير منحنى الاكتاف، يداه خلف ظهره، تتدلى من يمناه مسبحة تبدو ثقيلة، نظره إلى الأرض، عيناه لا ترتفعان، إلا إذا شد انتباهه صوت أو حركة، لا يرد السلام إلا بكلمة تخرج كرهاً من بين شفتيه، قليلون من يقف لتبادل أطراف الحديث معهم، وقليلون من يعتقد أنهم يدركون عمق ما يقول.

يفضل الجلوس في طرف المجلس، لا يغوص كثيراً فيه، يفضل أن يكون قريباً من باب الخروج، منهم من ينتظر تفسيره للأحداث، ومنهم من يتمنى ألا يسمع له رأياً، كلماته قليلة لكنها ماضية فيهم، ما أن يتحدث حتى تتغير طرق جلوس الحاضرين، منهم من يطل برأسه للأمام، منهم من كان متكأً فيعتدل جالسا، ومنهم من يضع نفسه وكأنه بين السجدتين، ومنهم من يتراجع إلى الخلف، ومنهم من يضع يديه متقاطعتين على صدره، متكأً برأسه على الحائط، تجنباً للنظر إليه، ومنهم من يسمع وبعضهم كأنه يسمع وهو لا يريد أن يسمع، وآخرين كلهم آذان صاغية.

وبقدر ما يهدم، بقدر ما يساعد، يعطى لهم في أحداث جسام شعوراً بالبراءة، يمنحهم قدراً من الرضا، فهو قادر على تحديد المسؤول، كان المسؤول شخاصا أم حداثا، يوصلُ الوقائع ويربطها بغيرها، يرمى بأسبابها بعيداً في الماضي، أو خارج حدود القرية، أو يمتد ببصِرته ليجدها فيما وراء البحار، أو في ابتلاء الرحمن، ومنها ما يعود لفعل أحدٍ ليس منهم أو لأحدٍ منهم ولا يعتبرونه منهم.

معنوياتهم تعود بقدر إلى ما كانت عليه ما تسرب إلى دواخلهم من شعور بالعجز، أو الخطأ يتبدد، ينتقي لهم – في عبارات موجزة – أكباش الفداء، ليتخذوهم سنداً لتفسير ما مر بهم، يجتهدون بعده في وضع حيثيات الإدانة، وتحويرها حسب مقتضيات الحال.

ويُظهر البعضُ بعضاً من الهمز واللمز والغمز عقب أقواله لكنها تتنفذ، فهم يحتاجونها وتدخل في مكامنهم، فما يبقى منها في أنفسهم يكفي، هو من صناع الرأي العام في الحي، مرد اختلاف التحليلات بعد قوله دلالات وإيحاءات ما قال به، فهم بين مؤطر لقوله أو مقلد لنهجه، وإن حاولوا التذاكي وإخفاء أصل ما يسري بينهم.

وقوله يضعهم في دائرة المفعول به، ويدفعهم للإقرار بأنهم لا حول لهم ولا قوة، وأنهم ضحايا أحداث تتجاوزهم، وتتجاوز ما يُرونه، ينثر الشك في قدراتهم، يبدد ما قد يكون من يقين، يبني الاستفهامات، يرفع من جدار العجز، يقتل التفاؤل، يكبت رغبات المحاولة، يجعل من التسليم حكمة ومن التحدي جماقة.

إنهم يستمرون في الاستماع إليه، أسلوبه ساخر، يُضحك ولا يَضحك، يستهين ولا يُستهان به، يهز الثقة، يقلب المعنى، يبرز التناقض، يبين المفارقات، هكذا تُفهم عباراته القصيرة.

ووصف عجوز من الحي يوما قائلا: “إنه نسخة من وجه تعاقب في أسلافنا، وها هو بيننا، يتكرر ولا يتغير، يتجسد في أجسام متعاقبة وأسماء مختلفة”.

التدوينة وجه آخر… ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “وجه آخر…”

إرسال تعليق