طرابلس اليوم

الخميس، 15 مارس 2018

من مكونات الأزمة المعرقلة لبناء الدولة في ليبيا

,

إسماعيل القريتلي

تتنوع مكونات الأزمة في ليبيا وتتعدد، ما يفترض أهمية تحليلها ضمن سياقها وسيرورتها، والنظر إلى التوقعات المتعلقة بها، ومن ثم اقتراح الإصلاح والتعديل بناء على مصفوفة الأولويات والبناء التراكمي.

في تقديري إن الليبيين بأغلب مكوناتهم وكذلك أشخاصهم يصرحون بإيمانهم بضرورة بناء دولة يهبونها الكثير من الصفات. غير أن الذي يحدث في الواقع من خطاب وأعمال منبثقين عن إدراكنا الجمعي وكثير من الفردي لمفهوم وتطبيقات الدولة يعكس أننا نختلف ليس فقط في تخيلنا للدولة، بل كذلك في تحديد المقدمات المنهجية التي يتطلبها تأسيس دولة لصالح مجموعات السكان الليبية تنجح في تحقيق الاستقرار؛ أحد أهم معاني مفهوم الدولة في الفلسفة السياسية.

ونعيش في ليبيا إشكالا منهجيا آخر يرتبط بإدراكنا لطبيعة النظم السياسية، ثم كيف يتم بناء النظام السياسي المناسب للحالة الليبية المرتهنة لسياق الأزمة في بلادنا.

أولا: سياق مكونات الأزمة

رأيت أن أقترح سياقا لمكونات الأزمة المعرقلة لبناء الدولة قبل البدء في الحديث باختصار عن المكونات نفسها؛ لأن فهم السياق يساعد إلى حد كبير أولا: في التفريق بين السياق والمكونات، وثانيا: في فهم الدوافع الموضوعية والأسباب المفسرة لنشأة سياق مكونات الأزمة نفسها. وفي النقاط التالية عرض مقتضب لبعض مكونات السياق الذي تنشط فيه مكونات أزمة الدولة في ليبيا.

1- التفكك الاجتماعي

تعيش مكونات الأزمة المعرقلة للدولة في ليبيا وسط سياق تفككت فيه الروابط الاجتماعية جهويا وقبليا وعرقيا، ولم يستقر النظم الاجتماعي بشكل كلي عند النظر إلى كل جغرافية ليبيا وتوزع المجموعات السكانية فوقها.

2- الصراع والحرب

ليس جديدا الصراع بين السكان في ليبيا منذ عقود طويلة، ووصوله إلى حرب أو حروب متعددة مستمرة منذ 2011 وعديدها مؤسس على النزاعات القديمة.

3- الانقسام السياسي

لعل الإقصاء السياسي تمارسه النخب الحاكمة في ليبيا منذ عدة عقود، ولم يظهر في شكل انقسام سياسي إلا بعد سقوط نظام العقيد القذافي رحمه الله، وما ترتب على سقوطه من ضعف في سيطرة سلطة واحدة وتفردها بالهيمنة على العملية السياسية.

4- غياب الدولة

الدولة في ليبيا تحضر باسمها وتغيب بمؤسساتها وهياكلها الفاعلة بعيدا عن الزعماتية والأعيان والجهوية والعرقية منذ إعلان تأسس ليبيا في 1951.

5- التطرّف والإرهاب

بدأ الإرهاب الديني يتسع اننتشاره في ليبيا منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستمر حتى اليوم، وبات جزء من مركب الحالة الثقافية والسياسية والاجتماعية، فضلا عن تأثيره على الأوضاع الأمنية.

6- القوى الخارجية

لم يتوقف تأثير القوى الخارجية الأقليمية والدولية على الأوضاع في ليبيا منذ ما قبل الاستقلال، مع اختلاف في نوع التأثير وحجمه الذي وصل في عديد المرات إلى حد التدخل في توجيه أو تسيير القوى السياسية والاجتماعية والنخب الثقافية والدينية.

ثانيا: مكونات الأزمة المعرقلة لبناء الدولة في ليبيا

1- نظم القيم

في تقديري يكمن تأثير نظم القيم كعنصر معرقل ضد أي مشروع لبناء الدولة في ليبيا من جهة عدم اتفاق الليبيين على مفردات نظم القيم، وبالتالي يؤثر ذلك أولا: على علاقة الافراد والمجموعات السكانية بالدولة، وثانيا: على كيفية التزام الأفراد والمجموعات بما توجه له الدولة، فضلا عن موقفهم من ممتلكاتها.

2- الهوية

تتعدد الهويات بحسب تنوع المجموعات السكانية في ليبيا، وأحيانا يصل هذه التعدد لمستوى مجهري في النزاعات والصراعات بين الجهويات والقبائل والأعراق. وفي ظني لم يحقق الليبيون هويتهم الوطنية الجامعة التي تستوعب الهويات الجزئية بلا طمس، ثم تنسج في علاقة ثانية خيطها الرابط مع الهوية التاريخية المرتبطة مع جغرافية العرب والمسلمين، وأخيرا توضيح مساحة فعل كل نوع من أنوع الهوية.

3- قواعد العيش

لم ينشأ بعدُ إدراك مشترك بيينا بأهمية الاعتراف بالاختلافات ووصفها بالتنوع، وتوسيع الحوار البيني للوصول إلى توافق مجتمعي يمهد معرفيا وعمليا إلى بناء النظام السياسي المناسب للحالة الليبية.

4- الزعماتية

الخبرة السياسية والاجتماعية والدينية في ليبيا مرتهنة لتطبيق الزعماتية والقيادة الرأسية، ولم تتأسس فعليا خبرة تعتمد الشراكة والمشاركة وتوزيع الصلاحيات والسلطات والنفوذ أفقيا. وفي تقديري جزء من الصراع والحرب أساسه الطموحات الزعماتية عند عديد الليبيين.

5- الأعيان

نشأت منذ مرحلة الحكم العثماني في ليبيا زعامة اجتماعية وتمثيلية لدى الحكام للأعيان، وباتت بعض الأسر والمناطق والمدن والقبائل تمثل منذ قرون وبعضها عقود الحليف والداعم الثابت لأي حاكم أو حكام يتسلطون على ليبيا، ويسعون على الدوام لحماية مواقعهم بالتموضع قريبا من السلطة أي كان شكلها، ويعيدون تموضعاتهم كلما تغيرت السلطة أو الحاكم.

6- شكل الدولة

أدى عدم توحد مفهوم وأوصاف ووظائف الدولة إلى الخلاف على شكلها، وأثر التفكك الاجتماعي كسياق، ثم الزعماتية والأعيان كموكنين للأزمة المعرقلة لبناء الدولة إلى بروز سؤال شكل الدولة الأنسب في ليبيا، هل هو الشكل البسيط أم المركب ثم أي الأنواع الأنسب داخل كل شكل.

7- نظام الحكم

انعكاسا لسياق الأزمة متمثلا في التفكك الاجتماعي والصراع والحرب والانقسام السياسي، ثم تأثير مكونات الأزمة نفسها لم يتفق الليبيون المنتخبون في أعضاء هيئة وضع الدستور على نظام الحكم، كما لم يتفقوا على شكل الدولة الأمر الذي لايزال يعرقل كل ما هو متعلق بالدستور.

8- المؤسساتية

تغيب عن هياكل السلطة والدولة في ليبيا المؤسساتية التي تعني وجود معايير ومقاييس لكل ما يتعلق بها من خدمات ونشاطات وعلاقات، واعتماد أنظمة حوكمة ومتابعة وتقييم ومحاسبة، إضافة إلى رسوخ بنية بيرواقراطية تفصح عن كل الأجراءات دون الحاجة إلى استخدام العلاقات أو منح موظفي القطاع العام مساحة لتأويل الأنظمة والإجراءات؟

9- الموارد

أدى الخلاف على شكل الدولة ونظام الحكم، إلى جانب سياق التفكك الاجتماعي وسيطرة المركزية إلى بروز الصراع على الموارد بين مجموعات السكان الموزعة على أقاليم ليبيا الثلاثة، الأمر الذي يدفع إلى مزيد من النزاعات والحروب.

10- الاقتصاد والمال

منذ بيان الملك إدريس رحمه الله سنة 1961 عن انتشار الفساد في هياكل الدولة الوليدة لم يتوقف الفساد في المال العام يتسع ويزداد اتساعا، وهذا ما تؤكده البيانات المنشورة أخيرا من قبل ديوان المحاسبة.

11- التنشئة الاجتماعية

لاتزال التنشئة الاجتماعية الرسمية والمجتمعية في مختلف أدواتها تعاني إشكالات بنيوية تؤدي إلى تخريج أجيال معطلة للإنجاز ومعرقلة لتأسيس الدولة، بل تستغل في الصراعات والنزاعات والحروب والفساد.

خاتمة

في تقديري تمثل هذه المكونات العوامل الأساسية التي تتناثر كحقول الألغام أمام كل جهود تبذل ويمكن أن تبذل لبناء دولة وطنية في ليبيا، ولا أخال القفز عليها أو تجاهلها ينتج معالجة للسياق ليستحيل داعما لجهود البناء، بل لابد من إعادة تحليل هذه المكونات المعرقلة، وإيجاد خيارات ومسارات للحل، على أن تلتفت الخيارات والمسارات إلى أهمية تبني الحوار والتفاوض كآلية رئيسة لتحقيق توافق مجتمعي بشأن كل مكونات الأزمة المعرقلة لبناء الدولة، وعدم استبدال التوافق المجتمعي بتوافق سياسي بين تلك المكونات مع الحفاظ على سياقها التي تعمل وتنشط فيه، لأن ما يحدث من مخرجات عند الذهاب مباشرة إلى التوافق السياسي قد لاحظناه عمليا منذ ديسمبر 2015 بعد التوقع على الاتفاق السياسي في الصخيرات، في حين أن التوافق المجتمعي السابق عن العملية السياسية المعتمد على الحوار والتفاوض بعيدا عن أي روح إقصائية أو مغالبة يفضي إلى إعادة إصلاح السياق، وكذلك الوصول إلى رؤى وإطارات تعالج مكونات الأزمة.

التدوينة من مكونات الأزمة المعرقلة لبناء الدولة في ليبيا ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “من مكونات الأزمة المعرقلة لبناء الدولة في ليبيا”

إرسال تعليق