طرابلس اليوم

الجمعة، 20 أبريل 2018

دوائر وتراتبية الحكم في ليبيا.. ماكينزمات الاستمرار والتغيير

,

إسماعيل القريتلي/ صحفي وكاتب ليبي

تقديم

الثورة، العصيان، التمرد، الانقلابات، الحروب الداخلية، الغزو الخارجي، المصالحات، المفاوضات، الاتفاقيات والمعاهدات بدفع داخلي أو خارجي، التوريث، الديمقراطية، كلها أدوات لإعادة التموضع في دوائر الحكم وتراتبيته، عليه لسنا بحاجة إلى تعظيم أي من تلك الأدوات، بل الحاجة تكمن في ضرورة تنظيم النظام الاجتماعي السياسي بما يحقق انتقالا سلسا على دوائر الحكم، ومن ثم يحقق غايات الحكم المتمثّلة في ترسيخ العدل، وحماية حقوق الأفراد في بيئة اجتماعية معترفة بحقوق الأفراد، وداخل حدود معترف بسيادتها داخليا وخارجيا.

حدود هذه المقالة زمنيا ما بين 1951 حتى وقتنا الراهن، وأي استطراد خارجها يأتي لضرورة السياق وليس مقصودا لذاته.

تجنبت في الأغلب ذكر أسماء وعائلات وقبائل ومناطق لأن ذلك يتطلب مسوحا ميدانية واسعة جدا لا أخالني أملك القدرة على تنفيذها، وكذلك لا توجد استشهادات مرجعية لأنها غير متوفرة من ناحية الواقع، ولما يفرضه ذلك من وقت طويل لا أملكه.

أخيرا موضوع المقالة ليكتمل ويصبح بحثا علميا لا يمكن أن ينتج عن جهد شخص واحد مهما علا كعبه في المعرفة، بل يمكن أن تتبناه مراكز بحثية في الجامعات الليبية مختصة بالبحث في الاجتماع السياسي، وتوجه نحوه باحثيها لقضاء ربما سنوات في جمع البيانات ميدانيا، وبالاطلاع على السجلات بأنواعها، وتحليلها إلى معلومات، وصولا لدرسها بمناهج البحوث الاجتماعية والتاريخية بغية وضع نظريات علمية عن دوائر الحكم في ليبيا من جهة وجودها الواقعي وديناميات تداخلها ومكانيزمات الانتقال بينها بالعنف أو بالسلم.

أولا: دوائر الحكم

عند تأمل هياكل الحكم في ليبيا فإننا نعثر على منظومة متكاملة محكمة التكوين تتظافر فيها عديد الدوائر لتستمر في هيمنتها على القرار السياسي والأمني والاجتماعي والمالي وتتحكم في أدوات التوجيه ذات التأثير على الرأي العام (الشعب)، ومن الصعب القبول بفكرة الحاكم المطلق في ليبيا بمعنى شخص واحد يحكم، بل في الواقع الاجتماعي السياسي هو يمثل تموضع دوائر الحكم مجتمعة، فالملك إدريس رحمه الله لم يكن ليحكم إلا بدعم قبائل محددة في برقة مع أعيان وعائلات من حضور برقة، وكذلك الأمر في فزان، وأعيان وعائلات في طرابلس إلى جانب أصحاب الأموال في ليبيا، إضافة لعديد أهل الخطاب والقلم من رجال دين وصحفيين. يحيط بكل ذلك الدعم الخارجي من بريطانيا والولايات المتحدة، وعديد القوى الإقليمية، وهذا ما لم يكن يملكه معارض الملك الأول بشير السعداوي على سبيل المثال.

1- الحكام

3/1 الملكية

بداية فترة الملكية كان مستقرا أن الملك إدريس السنوسي هو الحاكم، فهو سليل أسرة عريقة من جهة النسب والعلم والتنفذ الاجتماعي تعود إلى الأدارسة الذين حكموا في بلاد المغرب لمدة تقرب من قرنين قبل أن يسقطهم الفاطميّون، ويعود نسبهم إلى الحسن بن علي رضي الله عنه، ونظرًا لاتساع نفوذ السنوسيين ليس فقط في ليبيا، بل في مناطق واسعة من أفريقيا شمالا وجنوبا، وشبه جزيرة العرب وبلاد الشام وتركيا، استطاع الملك إدريس على تخطي عقبة معارضيه خاصة في إقليم طرابلس.

الاستقرار لم يدم طويلا للملك لأسباب: منها عدم ربطه الحكم بأسرته كما هو طبيعة النظم الوراثية مثلما كان في الشمال الأفريقي والخليج والأردن، وعدم وجود ولي عهد قوي، وكبر عمر الملك، وعدم اعتماده على تحالف جهوي متماسك، مما أضعف سيطرته على دوائر الحكم سواء في السلطة التنفيذية التي كانت تتهاوى قبل أن تتم مدتها، أو القبائل والأعيان، والعسكريون الذين خسر منهم محمود علي بوقيطين وغيره، إلى جانب تكون طبقات جديدة بين صفوف الجيش غير موالية للملك ولا تنتمي للقبائل الموالية له خاصة من طرابلس وفزان، وظهور نخبة طرابلسية غير موالية للملكية مع اتساع تنفذها في هياكل السلطة التي كانت شبه منقسمة لرغبة الملك في بقاء البيضاء عاصمة للدولة، مع تغير في مزاج القوى الدولية من الملكية في ليبيا مثل بريطانيا والولايات المتحدة، فضلا عن مصر الناصرية التي لم تعجبها مواقف الملك المتأنية تجاه قضايا يعتبرها عبدالناصر أولوية حكمه.

3/2 القذافي

عمل القذافي منذ بداية حكمه على استمالة عديد القبائل الموالية للملك تاريخيا خاصة في برقة، وبالذات في البيضاء ومناطق الجبل الأخضر، كما استمال العسكريين هناك بقيادات في مجلس قيادة الثورة ومن الضباط الوحدويين الأحرار من برقة.

وصول القذافي للحكم لم يكن عنيفا فدوائر الحكم الخمسة التي والت الملكية كانت مفككة ومتصارعة وبعضها لم يكن يهتم بحدوث تغيير يطيح بالملكية وأوردت عديد المذكرات السياسية لمسؤولين ليبيين علم قيادات الجيش نوايا مجموعة من الضباط معروفين بالأسماء لتنفيذ انقلاب عسكري.

القذافي كان يدرك أن تثبيت حكمه بحاجة إلى عصبية قبلية فوسع من تمكين أبناء عمومته ثم قبيلته القذاذفة في مفاصل الدولة، وضم إليهم أحلافا من قبائل في وسط وجنوب ليبيا مع المحافظة على شخصيات مهمة وفاعلة من أغلب القبائل والمناطق والمدن، وأسس مع الوقت نظاما اجتماعيا اتخذ صورا عديدة كان آخرها القيادات الاجتماعية التي مكن لنفسه من خلالها بين القبائل والمناطق، وطور منظومة حكم من التكنوقراط ينتسبون لعائلات وقبائل ومناطق فأسس مستويات من التحالفات والولاءات استوعبت كثيرا من أعيان الحقبة الملكية، وأوجد طبقة من أصحاب الأموال تواليه بعد أن فكك طبقة رؤوس الأموال التي كانت توالي الملكية، واستوعبت طبقة القذافي المالية عديدين من التجار ورجال الأعمال الذين والوا قبله الملك، وحكم من خلال دوائر حكمه مدة 42 سنة.

رغم متانة وتشابك دوائر الحكم التي أسسها القذافي وعززها خلال عقود من الزمن ليس فقط داخل ليبيا بل في كل دول الجوار وأبعد منها بكثير، غير أن بروز بعض الخلافات في العقد الأخير من حكم القذافي بين أجنحة دائرة الحكم وأصحاب المال والعسكريين ومن أسبابه صعود نجم أبناء القذافي وسعيهم لتظيم تموضعهم في مشهد الحكم السياسي والاجتماعي والعسكري والمالي والثقافي من خلال وجوه شابة تواليهم مما خلق فجوة اتسعت احيانا بينهم وبين دوائر الحكم القديمة التي أسسها وحكم بها القذافي.

يضاف إلى ذلك تهميش واسع للشعب الذي تضخمت نسبة الشباب فيه في مقابل عجز كل دوائر الحكم على استيعاب العدد المناسب منهم ليعاد تموضعهم في تلك الدوائر بما يضمن استمرارها لدعم القذافي ودوائر حكمه في الاستمرار، فضلا عن نشوء دائرة من المعارضة مثلت في بعض أوجهها دوائر الحكم في عهد الملكية خاصة الأعيان والعائلات وأصحاب الأموال وأهل الخطاب من الإسلاميين والليبراليين واليساريين.

كانت الظروف الداخلية والإقليمية والدولية تدعم تفكك دائرة الحكام التي كان يمثلها القذافي ورجاله المقربون وأبناؤه؛ ساهم في إقناع القوى الدولية والإقليمية عديد الليبين المعارضين للقذافي في الخارج حيث قدموا شهادات ليست مبنية على معلومات مدققة عن احتمال تنفيذه مجازر ضد الشعب (هذا أمر معلن يعرفه كل من تابع الأحداث في ليبيا) وبعد خروج الشعب في شوارع بنغازي، ثم بقية مدن برقة والمدن والمناطق الأكثر تهميشا في ليبيا، بدأت دوائر حكم أخرى موالية للقذافي تنفض يدها منه كأصحاب الأموال والأعيان والعائلات والقبائل والمدن التي خرجت تباعا ضد حكم القذافي، بل حتى عسكريون وأمنيون وتكنوقراط وبعض رجال دائرة الحكم نفسها بدأت تتخلى عن رأس دائرة الحكم القذافي لتحافظ على وجودها ومصالحها. لكن ذلك التغيير لم يكن سهلا أمام دوائر حكم متماسكة نسبيا، حافظت على ولائها لرأس الحكم، وقاومت شهورا طويلة ولم تكن لتهزم لولا التحالف الدولي الذي قاد فجر الأوديسا التي بدأت في 18 مارس 2011.

3/3 فبراير

سقوط حاكم ليبيا القذافي كان إيذانا بصراع عميق وعريض بين بقية دوائر الحكم في عهد القذافي، وأطياف من المنتصرين الذين يسعون لتثبيت وجودهم الجديد خاصة أولئك القادمون من المناطق والطبقات الأكثر تهميشا، فالنخبة العسكرية والأمنية والأعيان وأصحاب الأموال وأهل الخطاب في إقليم طرابلس سعوا منذ البداية إلى الحفاظ على مكتسباتهم التي تحصلوا عليها إبان الحكمين السابقين، ورأينا صراعا في إقليم طرابلس بين المناطق المهمشة خارج مدينة طرابلس وداخلها وبين مناطق أعيان طرابلس فكان الصراع مع الزنتان الذي قاد أعيان ونخبة طرابلس الأمنية والعسكرية وأهل الخطاب وأصحاب الأموال للتحالف مع مصراتة وبعض المدن الساحل الغربي وجبل نفوسة بغية إخراج قوات الزنتان من طرابلس ثم اختلفوا مجددا مع مصراتة بل واختلفت مناطق أعيان طرابلس مثل سوق الجمعة وتاجوراء مع المتنفذين الجدد من المناطق المهمشة مثل منطقة بوسليم مثلا.

الأمر ليس بعيدا عن ذلك وإن كان في مستوى جهوي في برقة وفزان حيث سعت العائلات والأعيان والنخبة العسكرية والأمنية وأصحاب الأموال وأهل الخطاب إلى إعادة وجودهم إلى المقدمة في إدارة الصراع ضد الصاعدين الجدد من المهمشين اجتماعيا وماليا وسياسيا، وظهر الصراع واضحا في بنغازي في عمليات اغتيال واسعة، ثم رفض اجتماعي للصاعدين الجدد ثم كانت الذروة بحرب ضروس استمرت أكثر من ثلاث سنوات، ومن المحتمل أن تعود الصراعات والحروب في حال حصل فراغ كبير في دائرة حكام الإقليم.

وربما هذا يفسر جزء كبيرا من الصراع في فران بين دوائر الحكم داخليا من جهة ومع الصاعدين الجدد من المهمشين اجتماعيا وماليا وعسكريا وسياسيا.

2- النخبة العسكرية والأمنية

نجحت النخبة العسكرية والأمنية المنتمية لنخبة دوائر حكم القذافي في برقة من إعادة تموضعها، وفرض سيطرتها على الإقليم، وتحصلت على دعم من الأعيان وبقية دوائر الحكم السابق لتحقيق مصلحة مشتركة في استمرار حماية تموضعاتهم المرتبطة بدوائر الحكم الجديدة.

والأمر ليس بعيدا في إقليمي طرابلس وفزان فيمكن فحص كشوف أسماء الشخصيات العسكرية والأمنية هناك لنجد سيطرة كبيرة لتكنوقراط المؤسستين العسكرية والأمنية على مفاصلها وإن رضوا بتصدر بعض القادمين الجدد من فبراير ومن مناطق وقبائل بعينها لأنهم يهدفون لاستمرار نفوذهم ولو بوجوه جديدة.

والنظر الأوسع يجد أسماء عائلات وقبائل ومناطق استمر نفوذها في النخبة العسكرية والأمنية منذ الحقبة الملكية وربما من قبلها إلى يومنا هذا.

3- الأعيان

يستمر بعض أعيان القبائل والعائلات والمناطق في الحفاظ على دور محوري في دوائر الحكم منذ العهد الملكي، ولايزال عديدهم يتحرك بسلاسة في داخل ليبيا وخارجها معبرا عن رغبتهم في حماية مصالحهم التي استمروا في الحفاظ عليها منذ إعلان تأسيس ثم استقلال ليبيا.

بعض الأعيان والعائلات والقبائل والمناطق كانت حاضرة بقوة إبان حقبة القذافي حتى في بدايات فبراير ثم اختارت حماية مصالحها بالتراجع عن دعمه ثم التبرؤ منه، لكن سرعان ما أعادوا تموضعاتهم ضد الصاعدين الجدد من المهمشين، مما أدى بهم إلى دعم عودة كثيرين من رجال دائرة الحكام لمرحلة القذافي، والأمر ظاهر في الأقاليم الثلاثة، واليوم كثير من مفاصل وهياكل السلطة يديرها تكنوقراط تلك المرحلة مدنيون وأمنيون.

لكن تلك الدوائر تعيش صراعات داخلية بين من أصر على عودة الحكم بدوائره كما كانت في عهد القذافي، وبين من رأى أن مصالحهم في حماية وجودهم ومكتسباتهم يتم من خلال الصعود مع فبراير والقادمين الجدد.

4- أصحاب الأموال

من أكثر الدوائر حرصا على استقرار الحكم ودوائره لأن المال جبان كما يقال، ولكن كذلك هم من أذكى من يقرأ الفرص، وهذا ما حصل حيث انتقل بسلاسة كثير من التجار ورجال الأعمال إلى سبتمبر ثم نفسهم أو أبناؤهم انتقلوا إلى فبراير، وحقق هذا الانتقال لبعضهم مضاعفة رؤوس أموالهم، واتسعت أعمالهم، واستفادوا ويستفيدون سواء من أوضاع الاستقرار أو الاضطراب.

لا شك تزاحمهم الآن رؤوس أموال من الصاعدين الجدد لكنهم بخبرتهم وعلاقاتهم استطاعوا استيعاب الأغنياء الجدد من أمراء الحروب وغيرهم.

وهناك اليوم أصحاب أموال يشاركون في العملية السياسية وشاركوا ويشاركون بشكل غير معلن في الحرب الأهلية الدائرة في عديد مناطق وأقاليم ليبيا، وفي نفس الوقت يحافظون على تشغيل رؤوس أموالهم في تلك المناطق.

5- أهل الخطاب

أكثر من يُرى تغيرهم وانتقالهم بين دوائر الحكم من حقبة إلى أخرى؛ لأنهم الظاهرون أمام الجميع فهم الصحفيون والإعلاميون والفنانون ورجال الدين، حيث يبدأون سريعا في التموضع بين دوائر الحكم، وهم معروفون بالأسماء كيف انتقلوا بين العهد الملكي وحكم القذافي وعهد فبراير ثم بين معسكرات الاقتتال والحرب الأهلية في فبراير.

لكن رغم ذلك فهم دائرة مهمة من دوائر الحكم فدورهم محوري في توصيل رسائل وتوجهات دائرة الحكام والأعيان، وينفذون خطط التأثير والتوجيه للناس العاديين (الشعب).

وكانت هناك أسماء لامعة عملت لصالح الملكية ثم انتقلت لتؤيد القذافي، وأيدت واجهاتهم الإعلامية بعد ذلك فبراير ثم عادت لتنقلب عليها منذ 2014.

ثانيا: الانتقال بين دوائر الحكم

في الحالة الليبية التي لا توجد فيها تجربة اجتماعية حداثية، ولسيطرة البنية والعلاقات القبلية والعائلية المتحالفة مع دائرة الحكام فإنه لم تتأسس عملية صعود السياسيين إلى دائرة الحكام من خلال عملية ديمقراطية سليمة بل عن طريق الدفوعات القبلية والعائلية المدعومة من دائرتي الحكام وأصحاب المال وأهل الخطاب.

لكن عندما تحدث عملية تغيير مؤسسة على الصراع الاجتماعي والطبقي فإن مساحات جديدة تمنح للصاعدين الجدد، وتعمل الدوائر القديمة على حماية تموضعاتها بالسعي لاستيعاب القادمين الجدد، وغالبا تنجح في ذلك إلا في بعض حالات عنف دائرة الحكام ورغبتها في تنحية واسعة للدوائر القديمة وهو ما حدث نسبيا إبان حكم القذافي، وبشكل أوسع إبان سيطرة الفبرايريين مقارنة بالمدة والأعداد.

الصعود المؤسس على عمليات استئصال عنيفة يطول، لكنه لا ينجح غالبا في القضاء التام على دوائر الحكم القديمة بل قادات الصراعات البينية في فبراير إلى استعانة واسعة بعناصر دوائر الحكم القديمة، ليست فقط التكنوقراط بل حتى دائرة النخبة العسكرية والأمنية، التي تعود تدريجيا إلى مواقعها القديمة وتساهم في صناعة نسبة واسعة من القرار السياسي والأمني والعسكري.

ثالثا: المحكومون

يقابل دوائر الحكم الخمسة في ليبيا المحكومين وهم الشعب وتنظيماته المدنية.

2/1 الشعب

بسبب صعوبة وصف المجتمع الليبي بالشعب الذي يتحدث عنه مفكرو التنوير ثم الحداثة الأوروبية، إذ لم يتأسس المجتمع في ليبيا على أصل تطور النشاط الاقتصادي الصناعي والخدمي بعيدا عن هيمنة دوائر الحكام، بل تأسس على قاعدة ريعية مثلت فيها دوائر الحكم دور شيخ القبيلة وعميد العائلة الذي يرعى أتباعه، وفق اتفاق ضمني يمكنهم من الاستمرار في الحكم مقابل تلك الرعاية.

ولم يكن الشعب الليبي ذا تأثير حقيقي على دوائر الحكم في الانتخابات لأسباب تتعلق بالبنية الاجتماعية ومنطق دوائر الحكم الريعي، فالديمقراطية الغربية غير متسقة مع الحالة الليبية التي لم تمر بالسيرورة التاريخية التي مرت بها أوروبا منذ عصور النهضة والتنوير والثورة الصناعي، فخلال ما يقرب من خمسة قرون أعادت أوروبا تفكيك كل ما يتعلق بالعصور الوسطى فيما يرتبط بدوائر الحكم التي مثلتها الكنيسة والملكية والطبقة الأرستقراطية الإقطاعية، وساهم في ذلك نشوء طبقة برجوازية اعتمدت على الصناعة والتجارة الخارجية وحركة الاستكشاف التي تأسست في المدن المحدثة.

حتى اللحظة تتضافر دوائر الحكم في ليبيا على التعامل مع الشعب تعاملا ريعيا يضمن لمن يرعى دعما ولو بالقتال دفاعا عنه أو تحقيقا لهيمنته.

2/2 المجتمع المدني

مثلت الثورة الصناعية التطبيق العملي لعصري النهضة والتنوير في أوروبا حيث باتت المدن التي انتشرت فيها المصانع والتجارة الخارجية أكثر أهمية من أراضي الإقطاعيين، وبمرور الوقت شكل سكّان المدن من العمال والتجار نقاباتهم وجمعياتهم واتحاداتهم التي تحمي مصالحهم أمام أرباب العمل البرجوازيين، وكان ذلك إيذانا بظهور المجتمع المدني الذي يهدف لحماية حقوق الطبقات الجديدة الكبيرة في المدن بمفهومها الحداثي، ولم يكن تجمع سكان المدن على أساس ديني أو عرقي أو جهوي بل على أساس حماية مصالحهم العمالية، وبمرور الوقت توسعت مجموعات المصالح لتشمل كل مناحي الحياة ونشاطاتها وباتت أكثر تأثيرا على دوائر الحكم لأنها تستطيع تنظيم الشعب أي الماكينة الانتخابية التي يحتاجها المنتسبون لدوائر الحكم ممثلون في الأحزاب السياسية في الغرب.

هذا التطور لم تشهده ليبيا، ولذا فمفهوم المجتمع المدني فيها يعني سيطرة الأحزاب والشخصيات العامة ذات العمق الجهوي والقبلي والعائلي على عديد الجمعيات والمنظمات الأهلية، وهو ما نراه ماثلا في الواقع اليوم حيث تنخرط الجمعيات المرخصة بصفة مؤسسة مدنية في العملية السياسية مباشرة وتؤيد الهيئات والشخصيات السياسية بشكل مطلق وليس من باب الضغط والتفاهمات المؤقتة لأسباب تتعلق بحماية أو دعم قضايا تلك الجميعات، بل تؤسس الأحزاب ذات الطبيعة الهرمية جمعيات يديرها أعضاء فيها لحماية مصالح الأحزاب والمناطق والقبائل والعائلات، وليس لمنتسبي تلك الجمعيات أي تاريخ نضالي عمالي أو لصالح قضايا محددة.

قد يفسر ما سبق عدم ميل دوائر الحكم مجتمعة لإيجاد حلول للأزمات المختلفة في ليبيا، بل وربما يدعمون استمرار بعضها لأن تساعد في إعادة رسم خريطة الحكم بما يخدم مصالحها، وتصبح أي دعوات ومبادرات لتصحيح ومعالجة خلافات بنيوية مثل تلك المتعلقة بالمركزية وهيكلية الاقتصاد والتصرف في الموارد ومسودة الدستور وإصلاح مؤسسات الحكم بشكل عام إلى جانب مكافحة الفساد المستشري بأنواعه غير مجدية ولا تجد لها آذانا صاغية.

رابعا: المثقفون المستقلون

وهنا أنتهي إلى خاتمة المقال بالتأكيد المتكرر على أهمية وجود مثقفين مستقلين من جهة التحرر من التبعيات بأنواعها، ومن جهة الوعي المنهجي النقدي الذي يمكن المثقف المستقل من مراقبة تأملاته وخطابه عند تطبيق المنهج العلمي والبحثي حيث يتمرن على اكتشاف انحيازاته الخفية، فلا يقع في إشكالية شكلانية المنهج بحيث ينطق منهجيا ويبطن عديد الانحيازات غير المنظورة.

في تقديري، عدم ظهور مثقفين منهجيين واعين لأساليب تحييد الانحيازات غير تابعين لدوائر الحكم بل غير منتمين إليها، يجعل السيطرة دوما لأهل الخطاب المنحازين علنا لدوائر الحكم، بل هم إحدى دوائره، ويهدف أهل الخطاب إلى تبرير فعل دائرة الحكام، وتوجيه الشعب إلى تأييدهم وتجدهم ينتشرون في جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني ذي الانحيازات السياسية والاجتماعية في ليبيا.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

التدوينة دوائر وتراتبية الحكم في ليبيا.. ماكينزمات الاستمرار والتغيير ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “دوائر وتراتبية الحكم في ليبيا.. ماكينزمات الاستمرار والتغيير”

إرسال تعليق