طرابلس اليوم

الثلاثاء، 21 مارس 2017

ياااااابوستة

,

عزة كامل المقهور/ قصة قصيرة

يقع حي “بوستة” على تخوم ضاحية سوق الجمعة ويتداخل مع حيي زاوية الدهماني والنوفليين،لذا يتأرجح انتماء قاطنيه ما بين المركز والضاحية. هذه الحيرة جعلته يحمل مزيجا من صفات الحي وملامح الضاحية. الحي بصخبه وعماراته وميادينه ودكاكينه وانفتاحه، والضاحية بمزارعها وسوانيها وغلتها وبيوتها وانغلاقها، ليصبح “بوستة” بالنسبة لطرابلس كوحمة الوليد تلاحقه إلى الأبد، رغم ما لسوق الجمعة من تأثير قوي عليه، خاصة كلما اتجهت جنوبا.

يعلق حي “بوستة” في ذاكرتي كتلك الشراشف البيضاء التي تنثرها جدتي على حبل الغسيل في  شرفتها  بزاوية الدهماني، منها المبلل الملتصق بجانبيه، ومنها الجاف تنفخه الريح الآتية من الميناء، ومنها الرطب المستسلم لمشابك خشبية.

تنتمي جدتي لأبي لـ”بوستة”، مايزال أقاربها يعيشون فيها، قضيت طفولتي ما بين زاوية الدهماني حيث تقطن جدتي و”بوستة” مستقر أمها. أمسك بفراشيتها وأرحل معها أياما لزيارة والدتها.. تجلسان متجاورتان في صحن بيتها المفتوح على السماء، تمدان سيقانهن. اقلبها بنظراتي، أكتشف أن جدتي ماتزال شابة حين تقع عيناي على أصابع أمها المتلاصقة والمنكمشة كقطع “القديد”، في حين أصابع جدتي منفرجة لامعة ووردية. تحتل حلبة الفروسية جزءا رطبا من ذاكرتي، يأتي من بعيد صدى مكبرات الصوت  لسباقات الخيل وقفز الحواجز، ويخرج من بوابتها الفرسان ببناطيلهم الضيقة وأحذيتهم ذات الرقاب العالية، وهم يغطون رؤوسهم بقبعات صلبة ومستديرة. ما يخيفني في ذلك الحي، مبنى مستشفى الأمراض الصدرية الأبيض القديم المبني على الطراز الإيطالي تظلله أشجار معمرة ملاصقة لسوره تحجب قصص أمراض السل التي قضت على الكثيرين، يتهيأ لي ونحن نحفه بسرعة في اتجاه “حوش حناي” أن رذاذ المرضى يتناثر من وراء أسواره . رغم توغل الحي جنوبا نحو منطقة سوق الجمعة، فإن ارتباط سكانه بالبحر جعل البعض يطلق عليه “الساحل”.

أتذكر عمي “بوعجيلة” ابن أخت جدتي، يقطن بالقرب من “مستشفى الصدرية “، يعمل سائقا في إحدى الدوائر الحكومية، بنيته صلبة، وعلى جبهته لطعة سوداء مستديرة، تنطق ملامحه بالصرامة خاصة عينيه الواسعتين البارزتين، لكنه طيب القلب يفاجئنا بابتسامة واسعة سرعان ما تنطفئ ويسترد ملامحه المتجهمة و تقلب نظرته المتحفزة.

يشاكس الصغار بمزيج من التوبيخ والممازحة حتى يختلط الأمر عليهم، لا يتبينون نواياه ومقاصده، فيترددون.. “علاش عمي بوعجيلة يفنص”؟ يضحكون فيعبس، يعبسون فيضحك، تتدخل زوجته زينوبة بين الحين والآخر خاصة حين يغلظ القول “امشي يلعن نصف وجهك” مازحة مخففة من وقع كلماته “قداش كلامك حار يا بوعجيلة”.

لم يكن عمي بوعجيلة يعيرني اهتماما حين يأتي للسلام على جدتي صحبة زوجته، وبعض من بناته الصغيرات، لم يكن يُسمح للكبيرات بالخروج، وحين نزورهم كن يتلصصن من وراء الباب ثم ما أن نلمحهن حتى يهرعن إلى الداخل.

يأتي بوعجيلة بالعطر المقطر وسائل الرب الثقيل الأسود من نخيل بوستة الممتد على طول النظر، والزيتون “المفشخ” وكلها من صناعة يدي زينوبة، وأحيانا دقيق الشعير وبعض الحبوب وعراجين “البرنصي” الحمراء المتدلية بتثاقل.

المصادفة أن زينوبة من زاوية الدهماني بينما عمي بوعجيلة وهو من بوستة يعتقد جازما أنه يتبع سوق الجمعة، وهذا الامتزاج يمثل الهوية الغامضة لبوستة.

لأبي عجيلة أخ يدعى التهامي، تزوج من امرأة أصولها من المدينة القديمة، يقطن بحي الأندلس.. لم يكن يحب بوستة، ولا يزورها إلا في الأعياد وحيدا. سمعت من جدتي وهي تمد ساقيها في سقيفة أمها أن له أولاد وأن زوجته أقسمت أنهم لن يتزوجوا إلا من “بنات المدينة” “زيهم زي بوهم”. كانت جدتي تمط شفتيها نحو الأسفل حين يذكر اسمها.

***

تدحرجت السنوات، توفت جدة والدي، كبرنا وابتعدنا نحو أطراف المدينة، ظلت “بوستة” على حالها تائهة بين الحي والضاحية.

انفجرت ثورة شعبية في البلاد، هاجت كبحر المتوسط في الشتاء.. ثورة شتوية، ممطرة مرعدة مبرقة..كانت العاصفة أقوى من هيجان شعوبها، فاكتسحت كل شيء ولم تذر…

قرر أبي الخروج… كانت “الساحة الخضراء” تعج بالشباب، والإشاعات تنهب القلوب.. “مشي لفنزويلا.. مشيّة جدي”. ولم يفكر أحد آنذلك فيما بعد رحيله.. ولم يرحل، وكان ما كان.. كنت أرى أبي يبكي في صلاته ويتضرع طالبا النصر.. ولم يكن النصر سهلا، كان نصرا موجعا.

حين سألت أبي بعد سنوات “كيف موجع” قال لي “الخوت لما يتعاركوا ويخش بينهم الغريب ويناصر واحد على خوه.. ما حد يربح يا بنيتي”!  كانت هذه أطول جملة سمعتها من أبي الذي كان مقلا في كلامه، يستخدم عينيه ويديه أكثر من لسانه…

مرض عمي بوعجيلة أثناء الأحداث، تمدد في فراشه يتابع الأخبار عبر قناة الجزيرة ويلعن معها ويبكي لبكاء البناغزة وأهل الزنتان والزاوية ومصراتة التي علمت حينها فقط أن أصوله وأصول جدتي البعيدة منها “وكان عندي ولد راهو بعته.. الله غالب”. أما زينوبة، فكانت في البداية متوجسة، لكنها شيئا فشيئا أخذت موقفا واضحا ضد الثورة، تجلس وسط النساء وتلعنها، “توا تشوفوا جايتنا أيامات سود”، تنهرها بناتها بوجوه شاحبة من الخجل.. “ياسر يا أمي.. شن هالكلام”.. تمسح على ذقتها براحة يدها ” قولوا بعدين قالتها زينوبة”. سرت الأحداث كاللهب، غلت القدور كالحمم، وكان الهذيان.

توفي عمي بوعجيلة وجدتي في ذات السنة.. عام الثورة. ترأس شقيقه التهامي طابور العزاء في مقبرة “شط الهنشير”، وانزوى في أيام العزاء الثلاثة ولم يتكلم.. كان حشد الرجال يتحدثون عن البطولات و”الجالاطينة” والسلاح والمنشورات والثوار والعلم والنشيد.. ويلحقون بوستة بسوق الجمعة، كيف لا وقد ساندت هذه الضاحية الثورة، واستقبلت أول القادمين اليها من خارج المدينة.

يستغرق التهامي في نفسه ولا يأبه لغيرها.. لا موقف له.. يشبه إلى حد كبير الفقمة.. جسده ناعم أملس.. كسول يمتطي إحدى الصخور ويسترخي، ثم يندلق نحو المياه يغمر فيها جسده ولا يراه أحد.

أصيبت كل البيوت بارتداد زلزال الثورة، منهم من قتل أو اختطف، أو عذب، ومنهم من صودرت أملاكه، وآخرين طردوا أو نزحوا أو هجروا، ومنهم من أصبح نائبا برلمانيا أو وزيرا أو ناشطا سياسيا أو رجل أعمال بربطة عنق بعد سنوات سجن طويلة.

في بيتنا هاجم المرض والدي.. انغمس كقالب الخبز في السياسة وشؤون البلد، يكثر من التدخين ويتعصب لأتفه الأسباب.. “تتعارك مع دبان وجهك.. خاف على صحتك ياراجل” تقول له أمي.

في عام حرق المطار، بعد ثلاث سنوات من الثورة، على يد مجموعة مسلحة، وعلى صوت “التكبير” وولولة الناس وبكائهم، ردد والدي وهو يشاهد التلفاز غير مصدق أن أحمقَ يمكنه أن يحرق مدينة “هذا هولاكو.. هولاكو في البلاد ياناس”… بعدها وقف والدي أمام المخابز.. وطوابير الوقود.. وحمل “بانقات” المياه، وفتش عن أنابيب الغاز.. وأوقد الشموع عند انقطاع الكهرباء، “عيشة كلاب” كان يردد.. “كان نحسابوها هكي ماطلعناش..”، في ذاك العام وهن قلبه وضعفت عضلته.

بعد عام علم والدي أن عمي “التهامي” تبوأ منصبا رفيعا، رددت امي بهزء “اشيه..اشيه” أما أبي فأشاح بوجهه وصام عن الكلام ثلاثة أيام. بعدها نطق “بنمشي للتهامي ندويله على اللي صاير بالك ما يندريش”، عارضته أمي ” كيف ياربي مايندريش”.

“بندير اللي عليا وخلاص”، انقبض قلبي لكلماته هذه، أحسست وكأنها كلماته الأخيرة المنبجسة من صدره العليل، يخرج سعاله المصحوب بالبلغم يخنق كلماته…” أرفعوني لبوستة” اعتقدت حينها أنه يقصد ذلك المبنى الأبيض الإيطالي.

قابل التهامي والدي، انصت اليه بهدوء ولم يرد عليه، ودّعه إلى الباب وأوصى أحد مستشاريه به خيرا وأمره أن يستمع إليه كلما طلب ذلك وأن يفسح له الفرصة لمقابلته. عاد والدي يجر قدميه… “دهشت باش وصلت فيه”، ” وشن صار؟” سألت أمي ” سمعني ووصى عليّا”.. ابتسمت والدتي وتنهدت ” آه وباه؟”.

حاول والدي بعدها مرارا مقابلة التهامي، اتصل بمستشاره أجابته الاسطوانه بأن “الرقم خارج الخدمة مؤقتا”، وقف أمام مقره وتحدث مع شباب مسلحين بقيافات مدنية كيفما اتفق ونعال وشباشب، عرّفهم بأنه  قريبه، “ولد خالتي راهو..” ثم أردف وهو يوازي سبابتيه ويحكهما ببعضهما البعض “أمي وأمه خوات”.. “برا ياحاج معاك الصلاح”، حينها فهم والدي أن التهامي هو التهامي، وأنه ليس عمي “بوعجيلة”، هو كبوستة متذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. يتابعه والدي عبر الشاشات وهو يجوب العالم، ويصافح، ويقبّل ويستمع، ثم يعود إلى صخرته محاطا بمستشاريه، ولا يبارحها إلا لسفرٍ آخر.

في عام انقطاع السيولة النقدية.. قرر أبي أن يرحل، واعتبر أن الخلاص لن يكون إلا بموته.. في العزاء، طوقت النساء قصاع الكسكسي المسقى بالبصل وحبيبات الحمص، تنبعث من بخاره رائحة القرفة، على سفر دائرية ممددة فوق أرجل الكراسي المتشابكة التي بدت كأصابع جدة والدي في صحن  بيتها الطيني في “بوستة”. حكت النساء بأسى عن أن والدي زار قبل رحيله قبر جدته، ثم وقف في الطرف الشمالي لبوستة مقابل البحر وصرخ…”ياااابوستة” بأعلى صوته “يا بوووووستة.. وين ماشية بينا”… ثم وقع أرضا… قالت إحداهن “يا ناري، مات وقلبه محروق على بوستة”.

التدوينة ياااااابوستة ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “ياااااابوستة”

إرسال تعليق