طرابلس اليوم

الجمعة، 4 مايو 2018

رأي في حكم بيع وسحب بطاقات الإئتمان ( الفيزا وغيرها )

,

ونيس المبروك الفسيي/ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

وردني هذا السؤال الشرعي حول بيع البطاقات في ليبيا ، أو خارجها.

ورغبة في نفع الناس ونشرا للفائدة والتماسا لإنضاج الجواب ، رأيت نشرها على صفحتي الخاصة ، ونظرا لتعقيد المسألة فإن التدوينة ستكون طويلة لشيء من التفصيل .

*********

ملخص السؤال : تقوم بعض العائلات ببيع البطاقات المصرفية التي تحوي على عملة صعبة ، بثمن أعلى من السعر الذي اشترت به من المصرف ، ثم هناك من يقوم بشراء هذه البطاقات من الناس ، ثم تحويل بعضها لخارج البلاد وتكليف أحد الأصدقاء أو التجار ببيعها ، ويتفق الطرفان على أن يخصم الصديق أو التاجر في الخارج نسبة من الربح ، بحيث يستلم بطاقات تحوي 10.000 دولار ، ويعيد لصاحبها مبلغ 9000 دولار ، ويتحمل الخصم الذي يجريه المصرف على هذه البطاقة وهو 6 % أو 4% ، وقد سمعنا بأن هذا المعاملة محرمة وتتضمن ربا أو احتيال . نرجو منكم التوضيح جزاكم الله خيرا .

كان جوابي كما يلي :

أخي الكريم هذا النوع من المعاملات هو من المعاملات المُركّبة ، ولكن سأحاول تبسيط المسألة قدر المُستطاع

هذا السؤال يتضمن ثلاث معاملات أساسية :

المعاملة الأولى : هي شراء المواطن أو رب الأسرة العملة الصعبة(= الدولار ) بالدينار الليبي من البنك ، وبسعر البنك ، ثم يستلم بطاقة تتضمن المبلغ بالدولار على أن يشتري بها أو يسحبها من أحد آلات الصرف الآلي .

هذه المعاملة هي صرف عادي ، وهي معاملة صحيحة مادام هناك اتفاق بين الطرفين(= البنك والمواطن ) على السعر . ولا يوجد بالمعاملة ربا ، لأن الأجناس الربوية ( = الدينار والدولار ) اختلفت ، ولا يشترط هنا إلا التقابض ( = أي تبادل الأموال في نفس المجلس ) ،ونظرا لشيوع هذه المعاملات في العالم ، ولصعوبة تحقق قبض الأوراق مباشرة في كل معاملة وحين ، فإني أعتبر أن قبض البطاقة الُمفعلة قبضا حُكميا – أي قبض اعتباري -يقوم مقام القبض الحقيقي وبهذا ينتفي وقوع الربا في هذا المعاملة ، وتعتبر صحيحة وبخاصة وأنها تعود على المواطن بالنفع ، وأنه قام بها بكامل رضاه ، وتم الاتفاق الواضح على سعر الصرف .

المعاملة الثانية : هي بيع هذا المواطن ، البطاقة لشخص آخر ، وبسعر صرف متفق عليه ، بحيث يبيع الدولار المرصود في البطاقة التي اشتراها من البنك ، إلى شخص آخر بالدينار الليبي ، وبسعر متفق عليه بينهما . وهذه المعاملة أيضا ، لا شيء فيها ، لأن المواطن تََملّكَ الدولار في هذه البطاقة ِملكيةً كاملة ، وقام ببيعه بالدينار الليبي ، شريطةَ أن لا تكون المعاوضة دينا ؛ أي يتم الاستلام والتسليم في نفس الوقت ،وبالسعر المتفق عليه .

المعاملة الثالثة : هي مطالبة أحد الأشخاص خارج ليبيا ، بسحب الدولارات الموجودة في البطاقة ، مقابل أخذ نسبة 10% ، أو أي نسبة يتفق عليها ،على كل بطاقة قام بسحبها ، وتُؤخذ هذه النسبة من الدولارات الموجودة في البطاقة بعد سحبها من آلات الصرف الآلي الموجودة في الشوارع أو البنوك .

وهذه المعاملة لا حرمة فيها ، فهي ليست قرضا ( = دين ) وليست صرافة ، بل هي عبارة عن وكالة بأجرة ، حيث يعتبر الشخص الذي يقوم بالسحب خارج البلاد وكيل لمن أرسل له البطاقة ، ويتفق الطرفان على أن الوكيل يقوم بسحب البطاقات ثم يأخذ أجرة متفق عليها ، مقابل تعبه ووقوفه على الآلات ، وتكرار السحب لأيام تطول أو تقصر. وهي مسألة تستحق الأجرة ، ومالُه هنا حلال لا شيء فيه ، ولكن يجب على الموكل(= صاحب البطاقة) أن يُعلمَ الوكيلَ ( = من يقوم بالسحب خارج البلاد ) بأن الآلات ستخصم نسبة البنك وهي 4% مثلا أو 6% ، وبالتالي لن يكون هناك نزاع على النسبة ، وينتفي الغرر الذي قد يلحق بالوكيل .

وأخيرا لا شك أن هذه المعاملات قد تعتريها أخطار وأضرار خارجة عن أصل المعاملة ، مثل وجود بطاقات لا تَعمل أو غير ُمفعّلة ،…. أو نزاعات بين الأطراف بسبب الشجع ،أو إخلاف الوعد ، ولكن وجود بطاقات غير مفعلة ليس أصلا مطردا ، بل هي قضايا نادرة ، والنادُر لا حُكم له ، ولا تُبنى الأحكام الشرعية على النادر ، أو الغرر اليسير ؛ وإلا ضاق بالناس عيشهم ،وتوقفت مصالحهم ،وانقلبت الشريعة إلى آصار وأغلال في وجه من يبتغي التجارة والربح الحلال .

كما أن مثل هذه المعاملات قد تتسبب- إذا تكاثرت وتفاقمت- في ضرر يتعلق بالإقتصاد العام ، ولكن تقدير هذ الضرر ، والإفتاء بناء على هذا التقدير ؛ هو من باب “السياسة الشرعية” ، وليس لأن المعاملة في أصلها محرمة ، وهذه المسائل مما يسميه الفقهاء “مسائلَ مُنفكة “، وتحريم هذا الأمر سياسةً ، يحتاج لقرار مشترك بين السلطة السياسية ووزارة الاقتصاد والبنك المركزي ولجنة من علماء الشريعة ،… فإن توافقت كلمتهم على أن هذه المعاملة تسبب ضررا بالصالح العام ، بعد دراسة علمية منصفة ،وجبَ منعُها وتحريمها من هذا الوجه فقط ، لا لكونها محرمة في ذاتها ،… فإن انتفى هذا الضرر العام ،عادت المسألة لحكمها الأصلي وهو الجواز .

وأخيرا فإني أخشى أن نمنع ونَحرْم جمهوَر الفقراء والطبقة المتوسطة من الشعب ، فوائدَ هذه المعاملة التي قدّمها البنك ، وبخاصة أن منهم من لا يستطيع السفر خارج البلاد ،أو لا يجدُ عنده من يقوم بسحبها ،… في حين ينتفع اللصوص الكبار، وأصحاب الجاه السياسي ، من هذه الخدمات والإمتيازات .

كما أني أخشى أن يَضعُفَ الوازعُ الديني ، ويخفُتَ إجلالُ الأحكامِ الشرعية في نفوس بعض المحتاجين ، حيث يشعر المواطنُ العادي بحاجته الشديدة للانتفاع بهذه البطاقة ، في حين يواجه فتاوى بالتحريم ،فيقع في صراع داخلي بين وازع الحاجة ورادع الحرمة ، فيقوم بفعل الأمر وهو (يعتقد) حرمته ، فيسقط اجلال المحرمات في نفوس الناس ،مع أن هناك مندوحة وسعة . وهذا أمرٌ خطير جدا، وله تداعيات ومآلات تخالف مقصود الشارع من سَن الأحكام ، لذا وجب على المفتي أن يتفطن لهذا الملحظ عند صناعة الفتوى .

كما أن إفتاء الناس بالوَرَع ، وحثُهم على ترك هذه المعاملات ؛ قد يكون ضرباً من ُضُروبِ التعسير والتنفير ،… فالفقيه اللبيب يفتي المسلمين بالشرع ولا يفتي بالورع ، لأن دائرةَ الشرعِ أوسعُ من دائرة الوَرَع ، كما أن هذا المسلك في الإفتاء من بعض الشباب ، قد يؤدي لمآلات ونتائج أخرى ، منها : إخراج أهل التقوى والصلاح ، ومن يَهمُه الحلالَ والحرامَ، من السوق وعالم الربح والتجارة والانتفاع ،.. وكأننا نؤكدُ معادلةً خاطئةً مفادُها : “كلما ازددت تدينا ،ازددت فقرا وحاجة !! ” ،وحاشا لدينٍ جاء لإعمار الأرض ورفاهية الناس ؛أن يضعَ أمام معاملاتهم الأغلال والآصار ، أو يتجاهلَ تَبَدّل الظروف والأزمنة ، وتعقيدَ العمليات والتبادلات المصرفية والتجارية المعاصرة التي لم تكن على زمن الفقهاء الأوائل .

الموضوع ذو شجون ، ولكن هذا رأيي في المسألة ، وإن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .

والله أعلم وعلمه أحكم، وصلى الله على محمد وآله وسلم .

المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك

التدوينة رأي في حكم بيع وسحب بطاقات الإئتمان ( الفيزا وغيرها ) ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “رأي في حكم بيع وسحب بطاقات الإئتمان ( الفيزا وغيرها )”

إرسال تعليق