طرابلس اليوم

الأحد، 1 يوليو 2018

ليبيا ـ تونس: ثلاث فرص مهدورة

,

رشيد خشانة/ كاتب تونسي

تشكل اجتماعات اللجنة العليا التونسية الليبية المقررة للأسبوع المقبل، فرصة لإعادة العلاقات الثنائية إلى السكة، ووضع خريطة طريق مشتركة يستفيد منها البلدان، اللذان يمران بمصاعب اقتصادية واجتماعية كبيرة. وتستطيع تونس ان تساعد ليبيا في التغلب على الاختناقات التي تُعطل تحسين الأوضاع، فيما تملك الحكومة الليبية المعترف بها دوليا، برئاسة فائز السراج، أن تساعد التونسيين، على الرغم من مشاكلها، من خلال إسنادهم بعض مشاريع إعادة الإعمار، التي سبق أن أُسند كثيرٌ منها لشركات فرنسية وتركية وإيطالية. ويعتمد ذلك على العلاقات الخاصة التي ربطت بين الجانبين على مدى التاريخ، إذ قلما بلغت العلاقات بين بلدين عربيين مستوى من المتانة والعمق والتداخل مثل الذي بلغته العلاقات التونسية الليبية، بحكم الجغرافيا والتاريخ، وخاصة بفعل حركات الهجرة البشرية من ليبيا إلى تونس وبالعكس، في فترات تاريخية قديمة وحديثة. وتمت عملية الاندماج في المجتمع المحلي من دون صعوبات، ناهيك أن بعض أبناء المهاجرين الليبيين اعتلوا سدة الحكم في تونس، بعد الاستقلال عن فرنسا، أسوة بالحبيب بورقيبة والباهي الأدغم وهادي نويرة. غير أن هذا التداخل لم ينفع في لجم الأزمات الثنائية واقتناص الفرص المتاحة للتكامل، إذ أهدر الجانبان أربع فرص ثمينة لبناء علاقات متشابكة ومتكاملة. وأول تلك الفرص هي إعلان وحدة سياسية بين تونس وليبيا تحت مسمَى «الجمهورية العربية الإسلامية» في العام 1974.

ومكن اكتشاف النفط واستثماره بكميات تجارية من تحريك الاقتصاد الليبي، وكان عُنصرا مُحفزا للتقارب التونسي الليبي، ليس فقط على الصعيد السياسي، وإنما أيضا على الصعيد الاجتماعي بعد تدفق الأيدي العاملة التونسية على ليبيا. وبالرغم من المناكفات، العلنية أحيانا، بين الرئيس الحبيب بورقيبة والعقيد معمر القذافي، الذي كان رئيس الدولة الفعلي في ليبيا، فإن البراغماتية دفعت الرجلين إلى التقارب، لاسيما عندما حلت بتونس أزمة اقتصادية صعبة، في أعقاب إنهاء تجربة التخطيط (1969) فبدت ليبيا، في مطلع السبعينات، بوابة الدعم الوحيدة المُتاحة وسط أوضاع دولية وإقليمية غير مواتية، بعد حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية.

على هذه الخلفية خطط القذافي لإعلان وحدة سياسية بين تونس وليبيا ورتب لقمة على انفراد بين الرجلين في جزيرة جربة يوم 12 كانون الثاني/يناير 1974، انتهت بالإعلان عن قيام «الجمهورية العربية الإسلامية». غير أن دولة الوحدة لم تستمر سوى ثماني وأربعين ساعة، ثم انفضت في أجواء مُلبدة بالخلافات، تطورت إلى أسوأ أزمة في العلاقات الثنائية.

فبعد اخفاق المحاولات الوحدوية العربية، يئس القذافي من الرئيس المصري أنور السادات واتجه غربا إلى تونس، مع أنه كان يُدرك تباعد الرؤى العميق بينه وبين بورقيبة في هذا الملف تحديدا. إلا أنه عرف كيف يأخذ بورقيبة بالإغواء، فتنازل له عن رئاسة دولة الوحدة، لكي يضمن موافقته على المشروع. وأدرك بورقيبة أيضا مرارة مُخاطبه الذي نفض يديه من أهل المشرق في أعقاب فشل مشروع «اتحاد الجمهوريات العربية» (17 أبريل/ نيسان 1971). ومن هنا يمكن اعتبار تجاوب بورقيبة مع عرض القذافي الوحدوي، وسيلة لإبعاده عن مصر والمشرق عموما، وربطه بالقطار المغاربي، المتعطل لامحالة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تراجع بورقيبة لم يكن مبنيا على حقد أو استنقاص من الليبيين مثلما يُلمح إلى ذلك البعض، ففي جميع المناسبات التي تحدث فيها عن ليبيا كان يذكر أهل البلد بكل خير لأنه لم ينس السند الذي لقيه منهم في صبراتة وطرابلس ومصراتة وبنغازي لدى عبوره ليبيا خلسة إلى مصر في 1946.

مع ذلك أجهضت التجربة لأن الدولة العميقة في تونس كانت ضد الدعوات الوحدوية والمشروع العروبي عموما. كما ساهمت الجزائر بزعامة هواري بومدين في إحباط الوحدة، إذ بدأت نُذر أزمة تعصف بعلاقاتها مع المغرب، بسبب قضية الصحراء الغربية، فلم تكن ترغب في تشكُل قوة عسكرية واقتصادية جديدة على حدودها الشرقية.

وأدى إلغاء الوحدة إلى تدهور كبير في العلاقات الثنائية تجسد في طرد العمال التونسيين من ليبيا، في وقت كانت نسبة البطالة في تزايُد والاقتصاد التونسي في حاجة إلى سوق في حجم السوق الليبية لترويج المنتوجات الصناعية والزراعية، والتقليل من حجم المديونية. وهكذا ضاعت فرصة السير نحو التكامل بخطوات تراكمية، في قطاعات محددة، ووفقا لمصالح متبادلة يكسب منها الطرفان معا. لا بل ارتدت العلاقات خطوات كبيرة إلى الوراء من خلال الحملات الإعلامية المتبادلة القائمة على الشتائم والحرب الدبلوماسية الضارية بين الحكومتين.

انتكاسة جديدة

في أعقاب عملية الاستيلاء على مدينة قفصة (جنوب) على أيدي كومندوس أتى من ليبيا عبر الجزائر في كانون الثاني/يناير 1980، انتكست العلاقات الثنائية كما لم تنتكس من قبل. وباتت ليبيا العدو الأول للمسؤولين التونسيين، والعكس صحيح. غير أن مرض الوزير الأول الهادي نويرة واضطراره التخلي عن منصبه، وتسمية محمد مزالي خلفا له، حفزا الليبيين على السعي للمصالحة وإعادة العلاقات المقطوعة، بل وإرسال وزير الخارجية (الراحل) علي عبد السلام التريكي إلى تونس، في العام التالي، تمهيدا لزيارة القذافي نفسه لتونس. ولاحت فرصة تقارب جديد كانت ستُعطي دفعا للعلاقات الثنائية، لو سارت الأمور بصفة مُتدرجة، ووُضعت أهداف مُحددة قابلة للتحقيق في آجال معقولة. وفي غياب تلك الرؤية التي تشجع ديناميات التكامل وتحُدُ من نزعات الانفصال والاحتراب، تزعزعت الثقة مجددا بعد توقيع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والجزائري الشاذلي بن جديد والموريتاني معاوية ولد طايع على معاهدة أطلق عليها اسم «معاهدة الأخوة والوفاق» (1983). وشعر المغرب وليبيا بأنهما أقصيا من المعاهدة، بل وشعر البعض في البلدين أنها تشكل محورا إقليميا موجها ضدهما. وسرعان ما توصلا إلى معاهدة ثنائية مضادة أطلقا عليها اسم «معاهدة وجدة» في آب/اغسطس 1984، ما كرس سياسة المحاور في المنطقة المغاربية. وانتقلت العلاقات التونسية الليبية في تلك الأجواء إلى مرحلة جديدة من التوتر لم تلبث أن استحالت إلى أزمة شاملة أسوة بأزمتي اتفاق جربة وعملية قفصة، استمرت حوالي ثلاث سنوات.

وما أن استولى الجنرال زين العابدين بن علي على الحكم بعد الاطاحة بالحبيب بورقيبة حتى رحب العقيد القذافي وأركان حكمه بتلك العملية وسارعوا إلى إعادة ربط العلاقات الثنائية مع تونس، ويمكن القول إن إعلان بن علي والقذافي بدء الاستثمار المشترك لمنطقة مساحتها 3000 كلم مربع في حقل البوري النفطي البحري أنهى أحد أبرز الخلافات بين البلدين منذ بدء الثمانينات. ويقع حقل البوري داخل الجرف القاري للبلدين على طول خط الحدود مع تونس.

وأتى الاتفاق على الاستثمار المشترك في أعقاب القرار الذي اتخذته محكمة العدل الدولية في لاهاي، التي احتكم إليها البلدان، وقد تركت المحكمة لخبراء البلدين مهمة رسم حدود المنطقة المنويُ استثمارها استثمارا مشتركا.

ويُلاحظ أن العلاقات بين ليبيا وتونس لم تستقرَ إلا عندما تولى الرئيس السابق بن علي منصب الرئاسة في عام 1987، بينما تأرجحت العلاقات بين البلدين في عهد بورقيبة بين استنفار عسكري على الحدود وطرد العمالة التونسية من ليـبيا، وصولا إلى إعلان وحدة لم تُعمر أكثر من 48 ساعة بين البلدين. ويمكن اعتبار ربع قرن من الاستقرار في العلاقات الثنائية أرضية مناسبة لتكريس التكامل الاقتصادي بين البلدين، لكن لم يكن هذا هاجس زعيمين يتحدران من المؤسسة العسكرية. وأظهر احتضان التونسيين أكثر من مليون لاجئ ليبي غداة الأحداث التي أطاحت بالعقيد القذافي العام 2011، أن الأرضية الشعبية مُمهدة لخطوات أكبر. وتسببت الفوضى السائدة في ليبيا منذ ذلك التاريخ، وغياب الدولة بإرجاء أي مشاريع مشتركة دول الجوار. لكن ليبيا بدأت تتعافى حاليا، وإن بخطوات وئيدة. ويمكن للبلدين أن يتعاونا بطريقة تؤمن فرص عمل لنحو مليون شخص، غالبيتهم يعيشون في الجنوب التونسي، ممن يتعاطون التجارة الموازية. بهذا المعنى يمكن أن يكون الاجتماع المقبل للجنة العليا المشتركة فرصة لبدء مسار جديد، من شأنه التخفيف من الاختناقات الاقتصادية والاجتماعية هنا وهناك، وضرب شبكات التهريب ودعم الاقتصاد المُنتج.

القدس العربي

التدوينة ليبيا ـ تونس: ثلاث فرص مهدورة ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “ليبيا ـ تونس: ثلاث فرص مهدورة”

إرسال تعليق