طرابلس اليوم

السبت، 22 ديسمبر 2018

النصُّ ثابتٌ و الفهمُ متحول

,

عماد الهصك/ أكاديمي ليبي

 

يمكن إرجاعُ أغلب الخلافات والاختلاف الدينية والسياسية والفكرية إلى سببٍ رئيس وهو: ” فهمُ النصوص أو تأويلها وإسقاطها على الواقع” وللخروج من هذه الإشكالية يحب إقرارُ حقيقةٍ واحدةٍ والاتفاقُ عليها، وهي كونُ القداسةِ خاصيةٌ تقتصر على النصوص دون غيرها، والمقصود من النصوص هنا هي النصوصُ الدينيةُ قطعيةُ الثبوتِ والدلالة وهذا هو (الثابت)ُ المتفقُ عليه، أما فهمُ النصوص وتأويلها، فهو اجتهادٌ إنسانيٌ لا قداسةَ له؛ لأنه أمرٌ (متحولٌ) من زمانٍ لآخر، وكذلك من مكانٍ لآخر، بل يقع اختلافُ الفهم من شخصٍ لآخر في الزمان والمكان نفسيهما، والشواهدُ على ذلك كثيرة، قديما وحديثا، فلا يوجد أي مسوغٍ عقلي كان أو نقلي يُلزم شخصا بفهم شخصٍ آخر، مهما كانت مكانةُ هذا الأخير.

 

فهناك سعةٌ تسمحُ للمجتهد بالتنوعِ والاختلافِ، مالم يتناقض النصُ الصحيحُ مع العقلِ الصريحِ، فإعادةُ قراءةِ التراثِ وفقَ مقتضياتِ العصر، وتطورِ الفكرِ الإنساني هو أكثرُ إقناعا لأنفسنا قبل الآخرين، بما يمكن طرحه من خطابٍ ديني أو تراثي، فالتدبرُ في النصوصِ، وإعادةُ تأويلها وفقَ ما استجدَّ من دواعي الفكرِ ومقتضياتِ العصر، هو أمرٌ نحن مأمورن به، بل نحن متعبِدون الله به وإن أخطأنا، ونحن هنا لسنا بحاجة للتذكير مرارا بما ذهبنا إليه إبتداء، من أن (القدسية للنصوص وليست للأفهام) فالكثيرُ من الممارساتِ التي نستهجنُها اليومَ من بعضِ الفِرقِ والجماعاتِ هي مستندةٌ -أساسا- على تأويلاتٍ قديمةٍ لنصوصٍ دينية.

 

ويمكن القولُ: إن هذه التأويلاتِ كانت صحيحة في عصرها، ومكانها، حين أُسقِطتْ على واقعها حينئذٍ ، فالخطأُ ليس في هذه التأويلاتِ، بقدرِ ما يكمن الخطأُ في الإصرارِ على إجترارِ هذه التأويلاتِ في سياقٍ تاريخيٍ ودينيٍ ومعرفيٍ يختلفُ تماما مع سياقها الأولِ الذي أُنتِجتْ فيه، والتعصبُ لهذه التأويلاتِ لا يوجد ما يبرره لا عقلا ولا نقلا ، لا بل كل نصوصِ الشريعةِ تدعو العقلَ للتدبرِ والتفكر ، فلا يمكن سجنُ العقلِ في أطرٍ مفهوماتيةٍ قديمةٍ، لزمنٍ انقضى وانقضت لاوازمُه ودواعيه، فالنقلُ (النص) باقٍ وكذلك العقلُ، ولا شيءَ يمنعُ من إعمالِ العقلِ في النقلِ، فهل تعلم أن حرقَ الطيارِ الأردني (الكساسبة) الذي أقدم عليه تنظيمُ داعش كان مستندا على بعض آراء الشيخ ابن تيمية واجتهاداته، وهل تعلم أن القاعدةَ الأساسية التي يستندُ عليها من يكفرون المجتمعات هي مأخوذةٌ من كتابِ:( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه القاعدة التي تقول: ” من لم يكفر كافرا، أو شك في كفره، أو صحح منهجه فهو كافرٌ” فكم من أناسٍ ستنطبقُ عليهم هذه القاعدة، فهذا لا يعني أن هؤلاء العلماء كانوا مخطئين فيما ذهبوا إليه، فهذا يُقدر ويُدرك من أهلِ العلمِ في حينه، وحسب مقتضيات الواقع ولاوازمه وقتئذٍ، ولكن الخطأَ فيمن إجترَّ هذه التأويلات، دون النظرِ إلى اتفاق واقعه، أو اختلافه مع تلك التأويلات، ظنا منه بقداستها، وصلاحيتها لكل زمانٍ ومكان.

 

وهذا لا ينطبقُ على كلام البشر بطبيعة الحال، مهما كانت مكانتُهم العلمية، وكما ينطبقُ هذا الكلامُ تماما على الفتاوى العابرةِ للحدود، التي هي سببُ كلِّ وبالٍ اليوم، فمهما كانت مكانةُ العالمِ أو الفقيهِ المعرفيةُ، فلا يمكن له أن يدركَ واقعا تفصلُهُ عنه المسافات، لأن هذا الواقعَ بالنسبةِ له من الغيب، ولا يعلمُ الغيبَ إلا علّامُ الغيوب.

 

وكم من عائبٍ قولا صحيحا..وآفتُهُ من الفهم السقيمِ.

 

المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك

التدوينة النصُّ ثابتٌ و الفهمُ متحول ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “النصُّ ثابتٌ و الفهمُ متحول”

إرسال تعليق