إسماعيل القريتلي/ كاتب وصحفي ليبي
تمهيد:
في تقديري أن القضية الليبية منذ 2011 تعيش أزمة مركبة تتلخص في التالي:
1- تفكك سيادة الدولة وتتمثل في تمظهرين:
الأول: تحلل المؤسسات السيادية في إقليمي طرابلس وفزان متمثلة في أجهزة الأمن الداخلي والخارجي والاستخبارات والمؤسسة العسكرية وضعف مؤسسة الشرطة.
الثاني: الانقسام السيادي بين الإقليمين وإقليم برقة فلا توجد أجهزة سيادية موحدة.
2- تفكك عضوي لهياكل الدولة لصالح مجموعات مصالح تحرك تلك الهياكل نحو مصالح فئوية متعددة المنطلقات والتمظهرات.
3- تحلل النسيج الاجتماعي لأسباب تتعلق بالحروب الدخلية والنزاع على الموارد الطبيعية.
وأما من جهة حقبة ما قبل 2011 فالقضية الليبية تطورت عبر عقود متتالية لتتشكل أزمتها في:
1- بناء سلطة ريعية خلقت مجتمعا يتغذى على التوزيع، وأسست اقتصادا رعويا يعتمد على إعادة تدوير جزء من دخل الموارد في عملية استيراد واستهلاك فقط.
2- رفض مبدئي للتنوع والاختلاف ومراكمة الصبغة الأحادية في كل المستويات والمساقات العرقية والاجتماعية والثقافية والجهوية والسياسية.
3- الفشل في تطوير رؤية قومية للتنشئة الاجتماعية والسياسية تستوعبها كل أدواتها الخطابية مثل الإعلام والمنبر والفن والأدب، والتربوية مثل التعليم بمراحلها.
4- عدم النجاح في خلق مجتمع مختلف متجانس يعتز بتنوعه.
المعطيات:
========
ويقصد بها مجموعة الحقائق (Facts) التي تمهد لرسم التوقعات والسيناريوهات وقد وردت في:
1- تقرير فريق الخبراء الذي صدر تحديثه المرحلي في 1 مارس 2018 على أن يصدر النهائي في 1 سبتمبر 2018، واستفاض في تقرير الأوضاع الليبية بناء على مسوحات وشهادات ووثائق، وخلص إلى تحلل السيادة الليبية، واستشراء الفساد المالي والسياسي، وتراجع في أوضاع حقوق الإنسان، وتعطل كثير من الخدمات الأساسية الحيوية مثل الصحة والتعليم والكهرباء والوقود، إلى جانب تراجعة الحالة الأمنية، واستمرار الانقسام السياسي، ودور لاعبين إقليميين ودوليين في استمرار الانقسام والاحترام.
2- تقرير صادر عن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أبريل 2018 بخصوص السجون في ليبيا حيث تحتجز المجموعات المسلحة في جميع أنحاء ليبيا، بما فيها تلك التابعة للدولة، الآلاف من الأشخاص بشكل تعسفي ومطول ودون مسوغ قانوني، حيث يتعرضون للتعذيب وغيره من ضروب الانتهاكات والتجاوزات ضد حقوق الإنسان وفقاً لتقرير الأمم المتحدة.
3- تقرير المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هوس) المنشور في أبريل 2018 المتعلق باقتصاد الحرب في ليبيا، وأورد فيه عديد الحقائق (المعلومات المدققة) عن حجم سيطرة مجموعات مسلحة متحالفة مع نخبة السياسة والمالي على الاقتصاد الليبي.
4- تقرير المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية عن اختراق المجموعات المسلحة لهياكل السلطة والدولة وتمكنها من السيطرة على الحياة الاقتصادية في طرابلس.
5- تقرير ديوان المحاسبة الذي وزعه الديوان في مايو 2018 وشمل مسحا لأغلب المؤسسات الحكومية والوطنية وقطاع المصارف وغيرها، وعديد الشخصيات، وتحدث فيه الديوان عن إهدار وفساد للمال العام في ليبيا.
6- قمة باريس المنعقدة بدعوة من الرئيس الفرنسي في نهاية مايو المنصرم، وجمعت أربع شخصيات تمثل فرقاء حالة الانقسام السيادي والسياسي والحكومي التنفيذي والجهوي بين الفبرايريين، وتمضخ عنه مقترحا إطاريا لمعالجة الأزمة الليبية، تمثل أساسا في تهيئة الأوضاع الأمنية والسياسية والإجراءية لعقد انتخابات برلمانية ورئاسية نهاية العام الجاري.
التوقعات:
========
1- محليا: بالبناء على التصريحات الإعلامية لرئيسي مجلسي النواب والدولة للإعلام الفرنسي، وما صدر عن 44 نائبا برقاويا تاليا لقمة باريس، وإعلان مجالس عسكرية طرابلسية، وإعادة التمترس خلف مسائل الاختلاف المعلنة، ومن خلال متابعة تغطية الإعلام المحلي للقمة التي عكست أحادية الخطاب وعدم حضور الآراء المخالفة في ذلك الإعلام، وبالنظر إلى مجموع الحقائق الواردة في التقارير التي أشرنا إليها، يصبح من الصعوبة بمكان توقع معالجة مؤثرة سواء لتمظهرات الأزمة منذ 2011 أو تلك التي تراكمت في العقود التي سبقت فبراير.
بالنسبة للانتخابات التي تمحور بشأنها لقاء فرنسا فإن توقعات عقدها في ظل هيمنة مجموعات مسلحة في إقليم طرابلس خاصة في مدينة طرابلس، وهيمنة الجيش الوطني الليبي في برقة، وتفكك الوضع الأمني في فزان تبدو صعبة من الناحية الإجرائية عقد الانتخابات. ومستبعد أن تكون هناك مساحة تعبير انتخابية يختلف فيها المرشحون مع قوة الأمر الواقع المسلحة في كل الأقاليم، حيث تريد تلك القوة شرعنة وجودها بنتائج الانتخابات حفاظا على مكاسبها السياسية والسيادية والمالية والاجتماعية. كما أن عقدها في المستوى الرئاسي دون الاتفاق علىى دستور يمثل كل الأقاليم يثير شكوكا تجاه النتائج تعكس النزاع الجهوي بين إقليمي برقة وطرابلس.
مسألة الفساد والهدر في المال العام كما وردت في عدد من التقارير السابقة، خاصة التقرير البريطاني والألماني دون إهمال لتقريري فريقي الخبراء وديوان المحاسبة يجعل من الصعب توقع احتمالية تغيير راهنية سيطرة مجموعات المصالح التي تمركزت في مدينة طرابلس على وجه الخصوص أين تتجمع موارد ليبيا المترتبة على بيع النفط الخام، وتخلقت منذ 2011 تلك المجموعات من خلال احتراب وتنازع داخل إقليم طرابلس انتهى إلى سيطرة عميقة لمجموعات المصالح في مدينة طرابلس بعد أن تمكنت من التفرد بالقرار السيادي والسياسي والمالي هناك بعد خروج المجموعات المسلحة التابعة لمدن ومناطق أخرى في الأقليم.
أمنيا، فهناك قراءة تميل إلى تفسير تحركات مصراتة – الزنتان – ترهونة (قد تنظم لها مناطق أخرى) الأخيرة التي جاءت في شكل مصالحات وتفاهمات ما هي إلا إعادة بناء حلف المتضررين من الواقع الجديد في مدينة طرابلس. وفي التقرير الألماني إشارة بالخصوص.
2- إقليميا: عكست التقارير الدولية، وكلمة رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، ومجموع إحاطات رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا غسان سلامة، وتصريحات القوى الإقليمية العربية خاصة المنخرطة بشكل مباشر في دعم أطراف النزاع الأساسية، عكست عدم الوصول إلى تفاهمات بين تلك القوى بشأن صراعها في ليبيا يحد من تدخلها، بل يتوقع أن تسهم تلك القوى في إشعال خنادق الانتخابات التي تدفع نحوها الأمم المتحدة.
يمكن ملاحظة ذلك الصراع المعلن في غير تصريحات مسؤولي تلك الدول، من خلال متابعة خطاب الإعلام والنخبة الليبية إلى جانب تتبع تحركات أطراف الصراع استعدادا للصراع برسم صناديق الانتخابات.
يبدو بعيد المنال أن تتوقف قوافل المقاتلين عابري الحدود نحو ليبيا من الغرب والشرق العربي، خاصة خططهم لإعادة التجمع في الجنوب الليبي كما تذكر تقارير دولية وبعض البيانات المحلية، إلى جانب تمركز فصائل سياسية بالجنوب تعارض حكومات أوطانها من تشاد والنيجر والسودان ومالي.
جامعة الدول العربية تستمر عاجزة عن الدفع نحو حل للقضية الليبية في ظل الصراع العربي العربي. في حين يمكن للاتحاد الأفريقي أن يلعب دورا أكثر فاعلية في الشأن الليبي لجهة وجود قوى إقليمية إفريقية أكثر تأثيرا في الاتحاد من المجموعة العربية.
تركيا، وأفضل خسبتها على قوى الإقليم نظرا للروابط التاريخية مع المنطقة ليست في موقع متقدم لتطرح اقتراحات أو تدعم عمليا باستخدام دبلوماسياتها الحيوية، ربما بسبب تركيزها على ملف استثماراتها في ليبيا الذي تضررت منه الشركات التركية منذ 2011 وارتباط هذا الملف بالسلطة الموجودة في طرابلس، وعدم تمكنها من تحييد موقف برقة لأسباب تتعلق بالصراعات الأقليمية، وقد يكون للضغط الذي تعيشه تركيا في الملف السوري وحدودها مع العراق، وتوتر علاقاتها مع الغرب ما يهبط بليبيا البعيدة في سلم الأولويات.
3- دوليا: أظهرت قمة باريس، وتغطية الصحافة الإيطالية لها، والمواقف الإنجليزية فضلا عن عدم مشاركة روسية وأميركية فاعلة مستوى الصراع بخصوص ليبيا، ويمثل التباين في الموقفين الفرنسي والتركي، والتقارب في الموقف الأمريكي البريطاني عوامل تضغط لغير صالح الحل، بل تمنح مساحات للأطراف المحلية تناور فيها بخلق مقاربات لاستمرار الصراع تحتمي بالنزاع الدولي على ليبيا.
سيناريوهات:
========
1- السيناريو الكلاسيكي: يتماهى مع مساعي الأمم المتحدة بالتركيز على تأثيث عملية سياسية تُعنى بمعالجة إخفاقات فبراير المرتبطة بصراع فرقائها الذين لم يكونوا خبراء بإدارة التنافس على السلطة من جهة انعدام الخبرة،فضلا على التأثيرات العميقة للثقافة والتقاليد والبنية الاجتماعية في العلاقة مع السلطة وخبرة إدارتها.
ومثلت بعثة الأمم المتحدة ومخرجها الاتفاق السياسي، وقمتا باريس، والمقترحات العربية والأوروبية والأفريقية، والمبعوثون الإقليميون والدوليون، إلى جانب شبكات المصالح المحلية التي همينت على القرار السيادي والسياسي والمالي في ليبيا هذا السيناريو، ويسعون جاهدين لإجراء انتخابات تؤكد أو تعيد تموضعاتهم الحالية.
إشكالية هذا السيناريو رغم الإقليمي والدولي له لأسباب تتعلق بتقاليد الدبلوماسية الدولية التي تفتح مساحات لصراع إرادات القوى المؤثرة على أرض وموارد دول باتت فاشلة، تستفيد منها في إدارة صراعاتها الخارجية والداخلية، وكـأن التقليد يفرض وجود ساحات مفتوحة للصراع والتنافس وتحقيق بعض الإنجازات تستفيد منها نخبة الحكم الغربية خاصة في إدارة صراعها السياسي الداخلي.
2- السيناريو المختلط: وهو سيناريو تتحرر بعض القوى الدولية من منطق الدبلوماسية التقليدي وتتقدم ولو منفردة وهذا حصل عندما تدخلت فرنسا في ليبيا قبل أن يلحقها الغرب وعندما احتلت الولايات المتحدة العراق وتنفيذ عملياتها في أفغانستان وقبل في شرق آسيا وأميركا الجنوبية، وقبل كل ذلك في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، حيث تدخلت تلك القوى بوحي مصالحها ولكن أيضا قامت بإنهاء بعض حالات الصراع في تلك المناطق.
وهذا يعني تتوسع القوى الكبرى في القيام بضغطين:
الأول: على اللاعبين المحليين بحيث تضيق أمامهم مساحات الهروب والمناورة تجاه الالتزامات المفروضة عليهم.
الثاني: على القوى الإقليمية المتورطة في تصفيات الحسابات والصراع على أرض ليبيا من خلال دعم الفرقاء المحليين لتتوقف على هذا التدخل بأنواعه في القضية الليبية. ثم فرض خارطة طريق يضيق على كل الأطراف رفضها كما حصل في لبنان والبوسنة ورواندا.
3- السيناريو الاستراتيجي: وهذا ينتج عن نخبة محلية تملك مشروعا لمعالجة أزمات القضية الليبية سواء تلك التي ترتبت على فبراير أو في ما كانت قبلها. ويكون واضحا عند هذه النخبة استفادتها من السيناريوهين السابقين لتعزيز تموضعه ويمكن لمشروعه، ويؤسس علاقاته المحلية والخارجية. ووقع ذلك لمؤسسي حزب العدالة والتنمبة في تركيا الذين استفادوا من مساحات العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي قبل تأسيس الحزب وخوض الانتخابات والفوز بها عام 2002، إذ عملت كوادر الحزب قبل تأسيسه في عديد الأحزاب الأخرى، وخاضت غمار تجربة الإدارة المحلية. وخارجيا استفادت جدا من الاتفاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا التي بدأت في 1963 بما عرف باتفاقية أنقرة ذات المراحل الثلاثة، ثم قمة هلسنكي سنة 1999 حيث قدمت تركيا طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وبدأت مرحلة المفاوضات في 2005 والتي اتكأ عليها حزب العدالة في دعم مشروعه السياسي الذي يقوم على تقليص دور المؤسسة العسكرية، وتحرير الاقتصاد وغيرها.
قد يكون هذا الخيار الاستراتيجي الذي يجب أن تتبناه نخبة جديدة غير مرتبطة بالصراع الحالي، ولكن دون أن تعزل نفسها عن الاستفادة من كل المساحات الممكن دخولها وفق منظور استراتيجي، تعمل تلك النخبة على إعادة مراجعته بدينامية دون الوقوع في إشكال التقوقع.
4- السيناريو الأسود: وينتج عن فشل السيناريو الأول والثاني وعدم جهوزية أي نخبة جديدة عن تطوير رؤية واستراتيجية بديلة لحالة الإخفاق التي تعيشها البلد، الأمر الذي قد يلج بليبيا إلى حالة من الفوضى العارمة، قد تنتهي إلى بناء سيناريو جديد وهو القضاء على وحدة ليبيا والاتجاه إلى الانفسام.
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك
التدوينة توقعات وسيناريوهات القضية الليبية ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.