عبد المنعم محي/ صحفي وكاتب ليبي
تعودت سماع قصص المهاجرين ومآسيهم، وصرتُ تقريبا أتكهن ببدايتها ونهايتها، حتى ذلك الحزن الذي يعتلي محيا المهاجرين صار عاديا ولم تعد ابتساماتهم الباهتة تفلح في إخفائه، فبعد احتكاكي ببعضهم وكتابتي عنهم في الكثير من المناسبات صاروا أمامي واضحين إلى حد جيد نسبيا.
ولكن جبريل ذو الست وعشرين عاما غيّر عندي ذلك الانطباع، فمذ التقيته في مكان عمله لم تفارقه تلك الابتسامة، ابتسامة استطاعت أن تخفي وراءها كل تلك الأحزان والمآسي التي سمعتها منه، والتي تعرض لها في طريق بحثه عن الجنة الأوروبية، جبريل يحمل بين جنبيه نفسا محبة ظهرت واضحة في كلامه وهو يسرد لنا كل تلك الأهوال والمحن، التي حدثت كلها وانتهت في عام واحد.
دخل جبريل إلى ليبيا عبر الصحراء أوائل العام 2016، ولم يمكث كثيرا في سبها حتى أمّن تكاليف رحلته إلى طرابلس والتي تبلغ 500 دينار ليبي، ليجد نفسه واقفا أمام قارب من قوارب الموت، لم يقف حائرا بل ركب القارب ودفع تكاليف تلك الرحلة 2000دينار، ليصبح بعد سويعات في عرض البحر صحبة 120 مهاجرا يحلمون كما يحلم، هذه الكوكبة من الحالمين تعلقت مصائرهم وأحلامهم في قارب تتقاذفه الأمواج في عرض البحر وفي ظلام حالك.
تتعالى صيحات المهاجرين وهم يئنون من ضيق المكان، بعضهم يلهج بالدعاء والتضرع، وبعض الأمهات يشجعن أبناءهن تارة يغنين لهن وتارة يحتضنّ فلذات أكبادهن، كل ذلك المشهد لم يفتر من همة جبريل فظل طوال الوقت ينظر إلى ما وراء الأفق، وينتظر أن تظهر أضواء أو تضاريس يابسة أو علامات تدل على أوروبا.
يقول جبريل كنت استنشق الهواء وأغمض عيني وأُحدث نفسي بأن هذا هو هواء أوروبا ونسيمها، لم أكن أعلم أننا لازلنا قريبا جدا من الشواطئ الليبية، كنت أفتح عيني وأحاول أن أنظر إلى أبعد نقطة، حتى ظهر لنا زورق أو سفينة لم نعرف لشدة الظلام، اعتلت أصواتنا بالفرح، فقد كنا نعلم أن السفن الأوروبية لا ترد المهاجرين لليبيا، فصرنا نصيح بأعلى صوتنا لينتبه لنا من في الزورق.
لم نمكث كثيرا حتى اتضح لنا أن الزورق يقترب منا ووصل إلينا في دقائق، لم نستوضح الوجوه ولم ننتبه للعلم الذي يرفرف فوق الزورق، ولكن مع أول حديث دار بين طاقمه وبعضنا علمنا أننا صرنا في قبضة خفر السواحل الليبي، لا أستطيع وصف خيبة الأمل التي رسمت على الوجوه.
وقوعنا تحت خفر السواحل الليبي يعتبر فشلا لمجهودات أعوام بالنسبة لأغلبنا، أعوام نقضيها في التخطيط لهذه الرحلة، يعني عودتنا إلى ليبيا احتجازنا لفترات مجهولة تنتهي بإعادتنا إلى بلادنا لنبدأ من الصفر، كل ذلك يدور في خلد كل واحد منا وهو ينتقل من قاربنا إلى ذلك الزورق، بقدر ما كانت رحلتنا من الشواطئ إلى عرض البحر مليئة بالخوف والأمل، بقدر ما كانت رحلتنا مع خفر السواحل الليبي مليئة بالخيبة والحزن والخوف وفقدان الرغبة في كل شئ، حتى الحياة لدى بعضنا.
تحدث جبريل عن مركز إيواء لم يعد يذكر اسمه، وقع احتجازهم هناك وفرزهم ليبدأوا رحلة أخرى صوب المجهول، يقول لم نكن نعرف جيدا مالذي سيقررونه بشأننا، لا نفهم حديثهم ولا يهتمون بإخبارنا بأي شئ، ولكن م افأجاني أن إقامتنا لم تطل هناك، حيث ساهم رجل ليبي متنفذ وعلى علاقة جيدة بأحد السجناء معي في التوسط لإخراجنا بعد أن دفع لهم أموالا لم أعلم مقدارها.
تبين لي فيما بعد أن الذي سُجِن معي كان “كمسنجي” وترتبط به العديد من مصالح المهربين في إفريقيا وليبيا وإيطاليا، وتوسط لإخراجي حتى أعمل معهم، رضيت العمل وقررت الذهاب والعمل في سبها لأجمع ما يمكنني من العودة لبلدي وبدء حياتي من جديد هناك.
في سبها لا تمر حياة جبريل بسلام، فهو يعيش تحت احتمال الاعتداء عليه من البلطجية الذي امتهنوا سلب ونهب العمال الأفارقة، ويعمل تحت ضغوط أمزجة بعض الناس في المدينة ، فتارة يبخسونه أجره، وتارة يمنعونه إياه، ولكنه مع ذلك يعيش حالة من الرضى مكنته من أن يستمر في العمل، يقول إن عودته لبلده باتت وشيكة، ويضيف أنه لم يندم فقد تعلم الكثير خلال هذا العام، ما تعلمه جبريل جعله يعود لبلده معتقدا أنها جنته رغم كل مافيها، وهو ما لايشعر به أغلب الأفارقة المهاجرين بحثا عن السعادة والاستقرار.
تركت إبراهيم يواصل عمله ولم تفارقه تلك الابتسامة، قال لي في المرة القادمة لن تجدني ولكن قد نلتقي عبر الفيسبوك أو تويتر، سأكون أكثر سعادة عندما أعود لبلدي.
التدوينة سأكون أكثر سعادة عندما أعود لبلدي ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.