طرابلس اليوم

الخميس، 22 ديسمبر 2016

البركة

,

عبد المطلب الوحيشي

غندما تغنى أبناؤها قائلين : “ خوذيلك بركاوي خير” ..لم يكن أحداً منهم قد بالغ..وعندما ترنم “البنغازيون” بلازمة “بخونا بشراب البركة” ، لم يخنهم التعبير في الفخر ..
فالمكان يخبرك بكل أثر…والزمان يحدثك بكل خبر…والتاريخ يفتح كتابه لتقرأ كل أمر
فالحي وأهله كان دثاراً “ليوسبيريديس”..وملح “برنيق” ومتنفس المرفأ والميناء

قبل الميلاد نما “السيلفيوم” في جوانب الحي..ونضجت آشجار التفاح الذهبي في روابيه..من الأغريق إلى البطالمة ..من بيزنطة إلى الفتح الإسلامي ..إلى العثمانيين والقرمانليين والأتراك..إلى الغزاة والمستعمرين…من الطليان والأنجليز .…أكتست “البركة” عند أطراف “السبخة” وشاحها المميز وأضحت علماً وشاهداً.

فأقرأ مابين دفتي المدينة..لتعلم أن الحي موسوم من حكايات التاريخ التليد ..ويمم شطر الشوارع والأزقة ..سيطل القصر وشرفاته، ..من “السيلس” مرورا “بالسوسي”. تمهل في الخطوات لتتحسس عن يمينك في مقبرة “الصحابة أثار “سيدي داوود” وعبق “الأنصار”…ستعلم أن المكان يكتسب بركته من الصالحين والأولياء..من “سيدي عبدالجليل “ و”سيدي بوسديرة”…من اللوح والدواة والقلم .من الستين حزباً …من مزامير الذكر في المحراب… في جامع “هدية” ، وجامع “بوغولة”..

وأبدأ الخطى أنى شئت..من مدخلها من شمالها أو الجنوب…من أي جهة أحببت.. من“العلوة” “ومقطع الحداد”، من “الطيرة”، و”بومدين”..من “البركات” و”العرفية” ..من مداخل “بوقعيقيص” و”بن صويد” و”بوشاقور”، من جدران المساكن في ”بوراوي”و”العيساوي”و”عبدالمطلوب”.من “الدنقير”..من حيطان “الفقي يونس” وسقفان “المقاصبة” و”بوشعالة”..من غبار “الكاروات”..من “الطاحونة” و”الهدار” و”بن شتوان” ..من “الداقدوستا” ..من “سانية خليل”…و”سانية بوزعيك”
من “الكنيسة” و”الريمي”..من بيت الوالي..من “السوق القديم”..من “المركز”..إلي باب الأذاعة..إلى أعتاب مبنى البريد..في مكتبة “الأندلس”…بين محطة الحافلات …من موقف “العربيات”..

استمر في تجوالك…فليس لك إلا أن تقف مندهشاً لتقرأ الضاد في مدارس “الساقزلي” و”المكحل” و”أسميو” و”بالة” ولتعلم أن بداية رحلة الألف والباء كانت هناك..
بين جدران “البركة” مكث رجال الخير…..وهناك كان رجالات الدولة…..يُراجع “حامد الشويهدي” مناهج وزارة “المعارف”.. ويمهر “الطايع” توقيعه..ويكتب الأستاذ (بازامة) تاريخ الوطن..ويُقر “الشيخ معتوق” حِفظَ طلبته…ويقف الأستاذ (نجيب بوقرين) في باحة المدرسة مزهواً..

من هناك كان أثير الإذاعة يعلن (هُنا بنغازي)..تنصت إلى (رجب الشيخي) ، و(فرج الشويهدي)..و(إبراهيم سواني) ..تأتيك نسائم فصحى (محمد المهدي)، ويضفي صوت (عبداللطيف المدولي) ألقاً خاصاً ..وينقلك (عمران عامر ) إلى باحة الطب وأهله.

من قبل الميلاد وبعده…من الشوارع وقاطنيها، من عراقة أعيانها وأهلها …من تعابير الوجوه .من وشمات العجائز… من سُمرة الفاتنات.…من الأضرحة والشواهد. .من اللحن والنغم..من الفن والرياضة..من الدروب والطرق..من الأقبية والقباب.. من “الحقيقة” وكتابها..من الأدباء والشعراء..من قطرة العرق النبيل.من مقارعة الطغاة…من القِدم والعراقة، من خوارق العادات والأساطير …

من كل هؤلاء ترتسم فسيفساء “البركة”..
في “الحميضة” ..تحط مياه “وادي القطارة” بعضاً من رحالها..
وتغطي طيور “الخليش”و”السمان” عين السماء.
تتزين “البياصا” ..فيتناثر حولها باعة الصحف والجرائد …وتصحو “النافورة” كل فجر على رائحة “الفول” و”الحمص” من “شوالات” العجائز ..

في الأعياد والمواسم ينهض الحي .. يحمل صبية وبنات الحي سفر “الكعك والغريبة” “إلى “كوشة طقطق” و“كوشة بن شتوان”.. و”كوشة بوختالة”..وهناك يختفي “القنان في العين”..
تكون لحلويات “طرخان” و”بووذن” مذاقاً خاصاً..ولا يكاد يخلو محلٍ أو متجر من مشروبات معامل “بومدين”

ييرز مصوراتي “البيجو”..وينتشي “هندام” كالعادة ..و يستقر المقص والمشط في يدي “سي حسن بوشعالة” أمام كرسي الحلاقة.
يفرغ “سي رجب سكليستة” للتو من إصلاح “تراشيكلو”.
ويُكمل ُ “سي عبدالسلام المقصبي” بخط النسخ ملصقاً أخر ، بينما يُنهي “سعدون” لوحة جديدة.

هنا يُنهي “سويدة” كما يحلو للبركاويين مناداته، من كتابة “لو كان ريح العون”..
ستسمع “ دلال الغيطة” ..وستطرب عندما تتردد في أذنيك “ بالحيله دوم بلاحيله”.

في مقهى “ سي خليل القوارشة” و”بن غزي” ..يتسامر القوم…يكون للأدب والفن نصيب..وتستأثر أخبار الكرة بالنصيب الأوفر..ينقسم الحي بين “الطليعة” و”الأهلي”…
في ملعب 24 ديسمبر تتصدر مواهب أبناء “البركة” المشهد.. من (شارلوت) و(حفيظة) ..من (صدقي) و(العمامي)..من (الهوني) و(القوبو) إلى رفاق (فوزي)..

في الصالة الرياضية، مكان “سينما اﻷنجليز”..تدور منافسات المصارعة والملاكمة…وستشهد رواد اللعبة.. لا تخطئ عيناك “سي عبدالسلام بالرحومة” و(عبدالسميع مخلوف) و(كشلاف) و(سي محمد البسيوني) ..سترى ( جقرم ) و(الشلماني) و(الوداوي) و(الفار) و(عياد – هولك) …تستهويك السلة والطائرة..وستصفق (لميلود) و(المقصبي).

في “البركة” مكث الوطن بأكمله
في “البركة” كانت بساطة الكلمات وعفوية المفردات.
في “البركة” تبينُ حنطية وجوه “البركاويين” عن حَمِيةِ “الرياس”… ومروءة “عيال البلاد”..
في “البركة” كانت “الفزعة”
في “البركة” هوت كتيبة الصنم
في “البركة” تضرجت “كوة الملح” بدماء الأبرار
في “البركة” كان الهوى والعشق !

والآن ..عندما يتذكَّر المرؤ “البركة” وأهلها…يسيل الدمع ويخفق القلب مردداً :

ياعين قجي دمعتك ميــــــزاب
دونك اوهام الغاليين انهالـــــي
رميت النظر ماريت فيكن والي ..اليوم يامكانات العزاز خوالي

———————————————————–
هي بداية من سلسلة للتعريف بأحياء “بنغازي”..ترتكز على ما بقى من ذاكرة ومعرفة..لعلها تُحرك فينا بعضاً من ألم فيرجع بعضنا إلى بعض ….أعلم أن هذه السطور ربما أغفلت عن غير قصد معالم كثيرة ووجوه عديدة …لكن مايشفع لي أن العشق يمحو كل نسيان

 %d8%a8%d8%b1%d9%83%d8%a9

التدوينة البركة ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “البركة”

إرسال تعليق