طرابلس اليوم

الأربعاء، 25 أبريل 2018

قصة الطائرة الليبية المخطوفة عام 1982

,

أحمد قوداب/ كاتب من سبها

دخلتُ مالطا ببطاقتي الشخصية… كانت هذه العبارة أول ما تبادر لذهني عند سماعي إن الطائرة التي أسْتقلُها خُطِفتْ إلى مالطا ذاتها، تزاحمت في ذهني الأفكار والسيناريوهات، ولكن أغلبها كان مشوقا، لعلّ ذلك كان بسبب رتابة الحياة التي أعيشها، فأنا طبيب أسنان وتتمحور حياتي كلها حول هذا الشئ، لا أملك أن أغير الكثير فيها، فتسير أيامي جميعا تقريبا بنفس التفاصيل والمراحل.

كنتُ أحد ركاب الطائرة التي كانت ستتوجه من مطار تمنهنت في سبها جنوب ليبيا إلى معيتيقة في العاصمة طرابلس، أواخر ديسمبر عام2017، كان كل شئ عاديا وغير ملفت للانتباه، نفس التفاصيل والحركات والكلمات والهموم وساعات الانتظار، نفس الازدحام والتسابق على الطائرة، كنتُ غير مهتم بكل ذلك، فقد كان ذهني مشغولا بالمؤتمر العلمي الذي أنتوي المشاركة في فعالياته بمدينة بنغازي.

للحظات أغمضتٌ عينيْ وتذكرتُ جلسة جمعتني بجاري سليمان، الذي كان على متن طائرة ليبية اُخْتُطِفتْ إلى مالطا عام 1982، غبِطته على ذاكرته القوية التي لم ينس فيها تلك التفاصيل الدقيقة لرحلته المشابهة لرحلتي الآن.

يقول سليمان وهو رجل خمسيني أسمر البشرة دائم التبسم كثير الحركات، لم أُحلم يوما أن أسافر خارج ليبيا خاصة بهذه الطريقة، ولم يدُر هذا الأمر ببالي وأنا أصعدُ الطائرة من مطار سبها الدولي، كنتُ وصديقي صبييْن في الرابعة عشر من عمرنا، كنا لا نتوقف عن مشاهدة كل شئ في الطائرة، كما كانت أعيننا تتفحص الركاب وكيف يستعدون للجلوس في مقاعدهم، لم يكن الأمر عاديا بالنسبة لصغار مثلنا، فقد كانت المرة الأولى التي نستقل فيها الطائرة، جلسنا وأقلعتْ الطائرة وبدأت المضيفات في تقديم الوجبات، لم تلبث المضيفة بعملها قليلا حتى اقتحم رجلَ مقصورة القيادة بشكل غريب، بعد دقائق أعلن الكابتن أن الطائرة مختطفة!.

إعلان الاختطاف لَحِقَهُ طلب الكابتن من الركاب التزام الهدوء،، بعد لحظات من الرعب والصدمة أصابني فرح شديد قلت “حصّلنا فرصة وبندهوروا”، منذ تلك اللحظة أحسستُ بأن الرحلة اكتسبت طعما جديدا سيجعلها أكثر تشويقا، وبدأت أُمعنُ النظر في ركاب الطائرة وأهتم بردود أفعالهم وقصصهم.

في الخلف كان هناك ثلاثة سجناء جُلِبوا من سبها بنية سجنهم في بنغازي، كنتُ أنظرُ إليهم من بداية الرحلة بفضول، وأنا أرى أيديهم مُكبلة ومعهم رجال أمن تعتلي وجوههم الحيرة، قبل أن يأتي أحد الخاطفين ليسحب أسلحتهم الشخصية، والتي سلموها بسهولة دونما مقاومة.

لفت انتباهي تلك العروس المتزينة بفستان زفاف أبيض، كان من المفترض أن عريسها ينتظرها في مطار بنغازي، رأيتها حزينة وهي في كامل زينتها، كانت تندب حظها بصوت تظن أنه خافت ولكنه يُسْمَعُ في كل أرجاء الطائرة، حتى فسدتْ مساحيق التجميل على وجهها، حولها ثلاث نسوة يحاولنَّ تهدئتها ولكن لا فائدة، كانت رائحة خبز التنور الساخن الذي تحمله رفيقات العروس تخترق أنوف الركاب، ضحك صديقي في هذه اللحظات وقال ” بخت هالاشكل ح يبات بروحه هالليلة”.

وأنا أتمعن في مشهد العروس بدأت الطائرة تهبط وترتفع بشكل متكرر، ما أثار موجة جديدة من الهلع بين الركاب داخلها، سمعتُ المضيفة تُخْبِرُ أحد الركاب أن الخاطفين كانوا يريدون النزول في قبرص أو تركيا أو اليونان بدل مالطا، ولكنَّ كابتن الطائرة أخبرهم بأن وقودها لا يكفي للذهاب إلى هناك إضافة الى أن هذه الدول لن تسمح بهبوط الطائرة، علمتٌ بعد ذلك أن السلطات المالطية وافقتْ على هبوط الطائرة فوق أراضيها، فور هبوطنا. كنت أشاهد من النافذة الجيش والأمن المالطي وهو يطوق المنطقة المحيطة بالطائرة، في حين جدّد الخاطفون تهديدهم بتفجير الطائرة في حال اقتراب أحد منها دون إذنهم.

بعد هذا الهبوط بدأت القضية تأخذ منحا مأساويا، فقد بقينا داخل الطائرة بلا طعام أو شراب، وأخذ الأطفال يبكون من الجوع، والعجائز يتألمنَّ من طول الجلوس، كانت معنا امرأة مريضة نفسيا ولم يكن معها الدواء؛ فبدأت تصرخ بصوت عالٍ أبكى ولدها الذي لا يعرف ما الذي يفعله، وشرع يشرح للناس أن والدته مريضة، في الجوار رجل مسن أرهقه الجوع والعطش حتى كاد أن يهلك، قبل أن تُحدِثه إحدى الراكبات وتطلب منه أن يحكي عن أسرته ولما هو هنا، فبدأ يروي قصته بصوت خافت لم نكد نسمعه.

في هذه الأثناء كان طاقم الطائرة يفاوض السلطات المالطية لتُقدِم المعونة للركاب ولكنها لا تقبل، كانت المضيفة تمرُ بين المقاعد ومعها قارورة ماء ولكننا لا نشرب من أجل أن يصل الماء للأطفال، نسينا أننا صغار أيضا يقول سليمان.

مرَّ اليوم الثالث ونحن في الطائرة ومصيرنا فيها مجهول، وضعُ الرجل المسن يزداد سوءا، والعروس أصبحت مثل “الغولة” بعد أن فقدت بهاءها وجمالها، وزاد سوء حال المرأة المريضة وانهار ابنها وهو يحتضنها باكيا، صارت أصوات الأطفال أكثر حدة وهم يبكون، واختلطت دموعهم بدموع أمهاتهم، عندها سمحت مالطا بأن تخرج المضيفة لتحمل الغذاء والماء للطائرة، تقدمتُ عند باب الطائرة مع بعض الشباب لنُساعِد المضيفة على النزول، كانت أرْجُلها تتدلى في الهواء قبل أن تصل إلى الأرض ولكنها ذهبتْ ولم تعد.

في اليوم الرابع  وبشكل فاجئنا خارتْ عزيمة الخاطفين وقرروا تسليم أنفسهم وطلبوا من الركاب مسامحتهم، موضحين أن معارضتهم كانت للدولة وأنهم لم يتقصدوا إيذاء أحد غيرها، كانت كلماتهم مؤثرة وأبكتْ العجائز، لم أنس تفاصيل وجه ذلك الرجل الذي لم ينم لأربعة أيام، كلما استيقظ كنت أجِدُهُ واقفا ممتشقا سلاحه.

جاء الفرج ونزلنا من الطائرة، رأيتُ الخاطفين وقد وقع نقلهم في سيارة سوداء، لم أرهم بعد ذلك إلا في تلفاز الفندق الذي نُقِلْنا إليه، في الخارج كان هناك الكثير من الناس الذين كانوا يرمون إلينا البسكويت والجبن والماء كنوع من المساعدة الإنسانية، رغم الجوع لم نأخذ شيئا منها، بناء على طلب أحد الركاب الذي قال” ردوا بالكم ترفعوا حاجة من الأرض”.، نقلنا إلى مستشفى قريب تلقينا فيه الفحوصات ووقع معالجة بعضنا من الجفاف، ومن ثم نقلنا إلى فندق داخل المدينة.

لا زلتُ أذْكر رقم الغرفة، وتفاصيلها، كان كل شئ جديد بالنسبة لي تماما، كان عالما آخر لم أسمع به حتى، قررتُ وصديقي أن نغامر ونتجول في الفندق، نزلنا إلى الدور الأرضي ورأينا المرقص الذي مُنْعنْا من دخوله يبدو لصغر سننا، ولكن دخلناه في غفلة من الحرس، تُهْنا في تلك الأضواء الحمراء والأجساد العارية، كانت تجربة ممتعة وجديدة لصبييْن من سبها في بداية الثمانينيات، في اليوم التالي أُخِذَ كل الركاب إلى السوق الحرة، وكانت الفرحة بعد أن أخبرنا موظف السفارة أن الحساب هنا مفتوح وطلب منا شراء ما نريده دون تردد.

اشتريتُ حينها أفخر ما رأيته من السجائر، وأذكر أني اشتريتُ سماعة ومسجلة الهتفون التي كانت موضة ذلك الزمن، إضافة للعديد من الهدايا والساعات والتذكارات، كانت البضائع غريبة ولم أعرف معظمها، ولكن أحببتُ ذلك المكان وذلك اليوم، إنه اليوم الخامس من اختطاف الطائرة.

لكل شئ نهايته، وانتهتْ رحلتنا غير المحسوبة إلى مالطا لنستقل الطائرة التي ستعود بنا للبلاد، عاد المساجين إلى مؤخرة الطائرة ومعهم رجال الأمن، وعادت العجوز المريضة وابنها بجانبنا، كما جلس العجوز المسن سعيدا في مقعده، بعد أن استوينا في مقاعدنا، دخلت إلى الطائرة امرأة شديدة الجمال وكأنها ممثلة أجنبية، لم نعرف أنها العروس التي أتت معنا في الطائرة، صعدتْ وحولها العجائز محملات بالهدايا والحقائب والمشتريات.

وصلنا طرابلس وكان في استقبالنا فتيات صغار قدمنَّ لنا الورود وساعات يد تذكارية، كما كان في استقبالنا عدد من المسؤولين، وأعلنتْ السلطات عن توفير إقامة فندقية لمن أراد البقاء في طرابلس، وحجوزات لمن أراد العودة إلى سبها أو اكمال رحلته إلى بنغازي، عندها ودّع الركاب بعضهم بحسرة، فقد أحسسنا بحميمية كبيرة بيننا رغم أننا لا نعرف بعضنا البعض، أكملتُ طريقي لبنغازي ولكن قلبي ظل معلقا في تلك الطائرة.

إلى الآن لم أنس تفاصيل تلك الرحلة، ولعلَّ ما سمعته فيما بعد عن تسليم الخاطفين للسلطات الليبية وإطلاق سراحهم زاد من تعلقي بتلك الرحلة الغريبة، يقول سليمان: أحد الخاطفين لا يزال حيا ويعيش في سبها وصار إماما بأحد مساجد المدينة، وكلما نظرتُ إليه تعْتمِرُني رغبة بأن أذهب للسلام عليه وإخباره بأني كنت أحد ركاب الطائرة التي اختطفها، ولكنني لم أجرؤ على ذلك.

هنا حكى لي سليمان عن رحلته في القرن الماضي عام 1982، المليئة بالمغامرة التي تملكها الخوف والفرح بالسفر وانتظار المصير المجهول، إلا أن سليمان وكل من كان معه بالطائرة نسوا أنهم كادوا أن يكونوا في عداد الموتى، ولو كان الحدث في بلد آخر ما كان لينتهي بوردة وساعة وخطاب معسول.

الآن أنا مخطوف في طائرة ركاب في ظروف قد تكون مشابهة، سأحكيها لكم لاحقا.

التدوينة قصة الطائرة الليبية المخطوفة عام 1982 ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “قصة الطائرة الليبية المخطوفة عام 1982”

إرسال تعليق