عبد المنعم الجهيمي/ صحفي من سبها
أُدِركُ تماما حجم الفوضى التي تشهدها البلاد، وأعرف أن الفساد الإدراي طال كل المؤسسات بلا استثناء، ولكن مع ذلك لا تزال حالة الدهشة والاستغراب تنتابني كلما رأيتُ أو سمعتُ بفساد جديد، لعلّ مبعثه أنني دائما ما أعتقد أن ما رأيته أو سمتعه هو آخر درجات الفساد، ولن يأتي أكثر منه، لكنّ المجتمع يتفنن في إبهارنا بدرجات متقدمة في هذا المجال.
ما دفعني لكتابة هذه المقدمة أنني شاهدت موقفا طريفا في احتفالية إحدى المؤسسات الأمنية بالجنوب، التي أحيت الذكرى الأولى لتفعيلها كمؤسسة تحمي المواطن وتذوذُ عن حِمى الوطن، كانت الاحتفالية هزيلة تماما كالمؤسسة التي ترعاها، رغم الحضور الملفت لمسؤولين أمنيين ونشطاء مدنيين رفقاء كل النشاطات والاحتفاليات.
نظرة سريعة ألقيتُها على الحضور وضعتني مباشرة أمام هاجس الفساد، كان الجلوس خليطا من القيادات الأمنية وكبار مهربي البشر، قد لا أُبالِغْ إذا قلت إن بعض الجلوس يتمتع بالصفتين، صفة رجل الأمن وصفة المهرب، لعلّ لذلك أسبابه ومبرراته في نظر أحدهم.
فصفة رجل الأمن تمنحه الحصانة إضافة إلى الوجاهة الاجتماعية التي يعتاش عليها الكثير من المرضى في مجتمعاتنا، أما صفة المهرب فهي باب الرزق الذي يقتات منه، وهي مصدر التخويف للكل وأداة الارتقاء في سلم التصنيف من كمّ مهمل إلى أحد كبار المُلاك وأصحاب السطوة والنفوذ، هذا التمازج بين الشخصيتين يوفر لصاحبهما ما يمكن أن نسميه قوة التاثير الحقيقي في المجتمع، فالخطيب والواعظ والناشط السياسي أو المدني والمفكر والكاتب وغيرهم لا يملكون من التأثير وسحر الحضور ما يملكه شخص يحمل صفتين متناقضتين في آن معا.
ولعلّ ما يزيد غرابة احتفال هذه المؤسسة التي تجمع المتناقضات؛ هو فقرات الحفل نفسه، والتي كان من أهمها تقديم تجسيد عن كيفية تعامل أفراد هذه المؤسسة مع المهربين وكيفية إلقاء القبض على المهاجرين غير الشرعيين، هذه الفقرة كانت برعاية أحد المهربين المشاركين في الحفل، الذي أحضر بعض الأفارقة من عرينه كي يساهموا في تقديم هذا التجسيد.
لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التعب في إقناع المشاهد، فالجميع هنا يتقن ويحفظ دوره عن ظهر قلب، فما يجسدونه في هذه الفقرة ليس إدعاء بل هو أسلوب حياتهم ومصدر رزقهم وسبب مكانتهم في مجتمعاتهم المحلية، انتهت تلك الفقرة بعد أن أبدع فيها الجميع من أفراد أمن إلى المهرب إلى الأفارقة، بعدها عاد المهاجرون إلى مكانهم بانتظار إرجاعهم لعرين المهرب، الذي عاد ليتخذ موقعه في المنصة بين القيادات الأمنية التي تكافحه، وعاد أفراد الأمن ليستعرضوا نجاحهم في تقديم فقرة التجسيد بإتقان وجودة منقطعة النظير.
مشهد طريف للغاية ويُلخِصُ ذلك التناقض الذي نعيشه في الكثير من جوانب حياتنا وأفكارنا وطرق تناولنا وطرحنا للعديد من المواضيع والقضايا، في ظل هذا المشهد تترسخ تلك المعاني التي جمعت المهرب ورجل الأمن والمهاجر والمواطن في بوتقة واحدة، خلف هذه البوتقة تتواصل معاناة المهاجرين في هناجر المهربين الذين يمارسون عليهم نزقهم وفساد خُلِقهم وعُقدِهم النفسية والاجتماعية؛ قبل أن يتقاضوا لقاء كل ذلك أموالا من هولاء المهاجرين أنفسهم، لتتحول إلى قصور فارهة ومحلات تجارية وسيارات وملابس ومناسبات وأوضاع اجتماعية مرموقة لأصحابها، خلف تلك البوتقة نجد المواطن الذي لم يعرف مدى هول وحجم مشكلة المهاجرين، ولكنه يظل خائفا من فئة المهربين المتزوجة من الجهات التي يفترض أنها ستحميه منهم، ليُصْبِح متفرجا سلبيا على ذلك المشهد، يقْنعُ منه بالسلامة.
انتهت الاحتفالية والتقط المهربون الصور التذكارية مع رجال الأمن، واستقل الأفارقة سيارة المهرب الذي أحضرهم، وانفض الجمع ونقل الإعلام صورة المؤسسة الأمنية التي تحتفل بإنجازات لم تقع على أرض الواقع، لتعود الحياة إلى طبيعتها، طبيعة يحكمها زواج فاسد جمع بين أمنيين ومهربين، لا ندري إلى أين يُمْكِنُ أن يقودنا هذا الزواج، ومتى ينتهي!، فأبشر بطول سلامة يا مربع.
التدوينة في جنوب ليبيا.. لا فرق بين المهرب ورجل الأمن ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.