طرابلس اليوم

الجمعة، 25 يناير 2019

كيف باتت طرابلس تمثل “عصب الحرب” الليبية؟

,

صحيفة لاكروا الفرنسية

الكاتب: فرانسوا دالانسون

 

لا زالت العاصمة الليبية طرابلس تثير الأطماع منذ سبع سنوات من سقوط نظام القذافي، وأصبحت السيطرة على المدينة بأكملها أو جزء منها، كمقرات المؤسسات الرئيسية بالبلاد، تسهل الوصول إلى الموارد العمومية فيها.

في قلب المدينة، خلف الباب الخشبي الضيق، يغرق بيت “القره مانلي” في غياهب النسيان. وحول فناء مزدان بنافورة، وغرف يملأها الغبار، وأزياء، ومجوهرات، وأثاث وأدوات مطبخ، تحمل كلها بقايا زمن منصرم عندما كان الباشوات المنحدرين من سلالة “القره مانلي” يفرضون هيمنتهم على طرابلس. ففي ظل حكمهم، ازدهرت المدينة بفضل الضرائب التي فُرضت على السفن التجارية في البحر الأبيض المتوسط، إلى أن منع كونغرس فيينا أعمال القرصنة وتجارة الرقيق.

ورغم مرور قرن ونصف، تظل العاصمة الليبية موضع كل المطامع، وآخرها ما حدث بين 26 آب/ أغسطس و4 أيلول/ سبتمبر، عندما منعت ميليشيات طرابلس “اللواء السابع”، وهي ميليشيا من مدينة ترهونة جنوب شرق طرابلس، من الدخول إلى العاصمة. وقد أفادت التقارير أن حصيلة الاشتباكات كانت ما لا يقل عن 117 قتيلا وأكثر من 400 جريح. وبذريعة “تطهير” طرابلس من “الميليشيات الفاسدة”، أرادت جماعة “ترهونة” المسلحة الحصول على نصيبها من الصفقة الأمنية من خلال المطالبة بمنطقة المطار الدولي الذي كان بصدد الافتتاح.

عودة متواضعة للهدوء

 

سمح اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التفاوض بشأنه في أوائل أيلول/ سبتمبر من قبل بعثة الأمم المتحدة، والترتيبات الأمنية الجديدة المبرمة بين حكومة الوفاق الوطني والميليشيات، بعودة طفيفة للهدوء. وقد حدث ذلك إلى أن شكلت الميليشيات الأربعة تنظيم “قوة حماية طرابلس” الذي استند إليه فتحي علي باشاغا، وزير الداخلية الجديد، أصيل مصراتة، لبسط سلطته. ومن جانبه، حافظ “اللواء السابع” على مواقعه جنوب العاصمة. وتفيد الشائعات بشكل دوري بوقوع هجوم على طرابلس من قبل الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق البلاد.

لا تعتبر السيطرة على جميع منافذ العاصمة، أو على الأقل الاستئثار بجزء منها، ذات قيمة رمزية فحسب، حيث يقول الخبير عماد الدين بادي في هذا الصدد: “طرابلس مهمة لأنها تضم مؤسسات رئيسية مثل المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي والمؤسسة الليبية للاستثمار، ناهيك عن الميناء والمطارات، ما يعني الحصول على الأموال”. وعلى امتداد 42 سنة، مارس معمر القذافي سيطرة حصرية على عائدات النفط الليبي، وكانت شبكات غير رسمية تنجذب حول إعادة التوزيع والاستثمار وتكاليفها.

سديم الجماعات المسلحة

 

يتقاتل سديم الجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية ورجال الأعمال والنخب السياسية لأجل اقتسام الكعكة بعد سبع سنوات من سقوط النظام الليبي. وتملك الجماعات المسلحة مصادر أخرى للدخل من خلال السيطرة على طرق التهريب، وتنفيذ عمليات الاختطاف بنيّة الحصول على فدية، فضلا عن عرقلة مرافق النفط والتحكم في البنية التحتية.

ومنذ تنصيب حكومة الوفاق الوطني في 30 آذار/ مارس من سنة 2016 بطرابلس، اخترقت الميليشيات الأربعة التابعة للعاصمة، الشرطة والأمن والمؤسسات المالية، ووضعت رجالها في الإدارة وحصلت على امتياز الوصول إلى العملات الأجنبية. وتعتبر جميع الطرق مُيّسرة للحصول على حصة أكبر من العائدات إن كان ذلك عبر خطابات الاعتماد، وبطاقات الائتمان المخصصة لسحب العملات الأجنبية، وتهريب الوقود، وإعادة البيع وإعادة تصدير المنتجات المدعومة، أو النفقات الخارجة عن الميزانية.

 

ضريبة بنسبة 183 % على المعاملات

 

إن الاستخدام الاحتيالي لخطابات الاعتماد في توريد السلع والبضائع، التي تكون في الغالب وهمية، يسمح بتبادل العملات الأجنبية بالمعدلات الرسمية، ثم يعاد بيعها بسعر السوق السوداء، وهو إما سعر أعلى بحوالي أربع إلى سبع مرات، أو أموال تم غسلها في الخارج.

وتحت ضغط دولي، قدم البنك المركزي في منتصف أيلول/ سبتمبر ضريبة بنسبة 183 بالمائة على المعاملات بالعملات الأجنبية وهو ما قلّص الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء. ومنذ ذلك الحين، تقلصت طوابير الانتظار أمام البنوك لسحب الأجور المدفوعة من قبل الدولة، فضلا عن الأرباح المتأتية من الأنشطة غير المشروعة في سوق الصرف الأجنبي.

يقول ميلود، وهو جالس يترشّف قهوته في ساحة الجزائر: ” إنها وسيلة غير ناجعة. فهذه الجماعات المسلحة، التي تدفع وزارة الداخلية مرتباتهم وتكاليف تشغيلهم من ميزانيتها، تواصل استغلال مزاياها التنافسية من خلال وجودهم في طرابلس لأجل التفرد بفرص النهب. وقد ولّدت هذه الضريبة 13.2 مليار دينار في أقل من أربعة أشهر، وهم يتناحرون الآن لاسترداد بعض منها”.

بصفته موظفا متقاعدا، ينتمي ميلود إلى طبقة وسطى فقيرة عانت من الخصاصة طيلة سنوات عديدة. في هذا الصدد، يعلق ميلود قائلا: “في المستشفيات العمومية حيث يجب أن يكون العلاج مجانيا، عليك أن تدفع تكاليف العلاج وترسل عائلتك لشراء الأدوية من الصيدلية”.

كسب مبلغ قيمته 600 يورو من العمل عشرة أيام في الأسبوع

 

أفاد محمد سالم قداح، رئيس شركة لإستيراد المواد الغذائية أن “الضريبة المفروضة على المعاملات بالعملة الأجنبية، تمنح رجال الأعمال رؤية أكثر وضوحا. ويقلل التقارب بين أسعار الصرف من جاذبية السوق الموازية. أما الخطوة التالية التي ينبغي اتباعها، فتتمثل في استبدال الدعم السلعي على أسعار الوقود والدواء والمواد الغذائية، بإعانات مباشرة، ما سيساهم في الحد من تهريب السلع والتجارة غير القانونية”. وبالنسبة للفئة القليلة التي تعتمد على إيرادات النفط أو تلك المنخرطة ضمن شبكات الأعمال، وعلاوة على الشرائح التي تعمل في مجال السياسة أو تنتمي إلى الجماعات المسلحة، لا يعد المال مشكلة على الإطلاق.

تُغلق محلات العلامات التجارية الواقعة على طريق قرقارش غرب طرابلس، حيث يلتقي الجميع مساء يوم الخميس في المقاهي العصرية قبالة البحر، أبوابها في وقت متأخر جدا. ويعتبر العمل لصالح الميليشيا التي يظهر أفرادها بالزي والحذاء العسكري، فضلا عن السلاح المعلق على الحزام، طريقة سهلة للحصول على المال. كما يجني الشاب الليبي حوالي 600 يورو من العمل لعشرة أيام فقط في الشهر. وقد اختار جيل ما بعد القذافي، أنشطة أخرى مربحة على غرار السوق السوداء وتهريب الوقود أو في مجال العقارات وخدمات المقاهي والمطاعم. في هذا الصدد، تقول المهندسة المعمارية نعيمة إن “المال السهل يجعلك تحتار في أمرك. أعرف الكثيرين ممن أصبحوا من أصحاب المليارات قبل بلوغ سن الثلاثين. الأهم بالنسبة لهم، هو تكوين علاقات مع الميليشيا لضمان تسيير أعمالهم بهدوء”.

يقع “شارع المطر” بليبيا، وهو أحد الشوارع الراقية، في وسط المدينة. ويرحب “مقهى 180” الذي يتميز بديكور عصري، بضيوفه في الطابق الأول. وقد تعوّد الزبائن المنتظمون من رجال ونساء، على زيارة هذا المقهى صحبة العائلة أو الأصدقاء، من أجل الاستمتاع بكعكة “البريوش” أو أكلة “الشكشوكة”. وأفاد الأستاذ بكلية الصيدلة بطرابلس، البالغ من العمر 62 سنة والذي شارك في تأسيس منظمة “معا نبنيها” التي تعمل على تعزيز مشاركة المرأة في عملية إعادة البناء السياسي، رضا الطبولي، قائلا: “أدت كل من عسكرة المجتمع وانعدام الأمن إلى الحد بشكل كبير من حرية الحركة النسائية”.

شوارع تعمّها النفايات

 

تساهم الفوضى التي تعم المنطقة في تعزيز الثقافة المحافظة التي تشجع النساء على الزواج المبكر والبقاء في المنزل، حيث تقتصر مهامهن على لعب دور الزوجات والأمهات. ويؤدي ذلك إلى انخفاض نسبة النساء المتعلمات، إذ يضطررن في أغلب الأحيان إلى المساهمة في الدخل العائلي من خلال العمل في صنع وبيع الكعك.

 

بعد مرور سبع سنوات على ثورة 2011، تلاشى الحلم المتمثل في تحويل طرابلس إلى “دبي شمال أفريقيا”، وعمت الفوضى المدينة التي تُركت بين أيدي شبكات من المحتالين والمجموعات التابعة لهم. وفي الشوارع المليئة بالقمامة، التي يقوم جامعو المخلفات من بنغلاديش بتجميعها، وحيث انقطاع الماء والكهرباء، عادة ما يناقش السكان تطلعاتهم بشأن استقرار الأوضاع.

يقول جلال بن عمران، البالغ من العمر 40 سنة، الذي يشغل منصب رئيس جمعية متساكني طرابلس، وهي المنظمة غير الحكومية التي تسعى إلى تقديم مرشحين للانتخابات البلدية: “لقد تم التلاعب بنا من قبل قناة الجزيرة وفرنسا. إن السياسيين والجماعات المسلحة ينظرون إلى الدولة على أنها مورد يجب نهبه وليس كسلطة يجب احترامها. نحن ننادي بعودة الجيش والشرطة وإرساء دولة ذات مؤسسة عسكرية قوية”.

“كارتل” مكون من أربع ميليشيات

 

تضم طرابلس أربعة ميليشيات رئيسية وهي؛ قوة الردع الخاصة، وكتيبة ثوار طرابلس، علاوة على ميليشيا لواء النواصي ووحدة الأوقاف والشؤون الإسلامية أبي سليم. وتدّعي هذه الميليشيات أنها موالية لحكومة الوفاق الوطني لفايز السراج التي بدأت العمل في طرابلس منذ نهاية آذار/ مارس سنة 2016.

أما بالنسبة لمجموعة اللواء السابع بمدينة ترهونة، التي تلقب باسم “كانيات” نسبة إلى الأشقاء الثلاثة من عائلة “الكاني”، فهي تعتبر مستبعدة من ميليشيات “الكارتل” بطرابلس. مع ذلك، تعتقد هذه المجموعة أن المنطقة التي تضم المطار الدولي، والذي من المقرر إعادة افتتاحه هذه السنة، تابعة لها وذلك لأن جزءا كبيرا من المتساكنين في المنطقة، يعدون بالأساس من أصيلي مدينة ترهونة.

وتعتبر ميليشيا مدينة الزنتان أيضا، من بين الميليشيات “المستبعدة”، حيث أزيحت من طرابلس في سنة 2014، كما استُبعدت ميليشيات مصراتة بعد تأسيس حكومة السراج. وتتمركز مجموعات أخرى غرب وشرق طرابلس وتحديدا في مدينتي الزاوية وتاجوراء.

التدوينة كيف باتت طرابلس تمثل “عصب الحرب” الليبية؟ ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “كيف باتت طرابلس تمثل “عصب الحرب” الليبية؟”

إرسال تعليق