طرابلس اليوم

الأحد، 31 ديسمبر 2017

ماذا يعني أن تكون ميتا في سبها جنوب ليبيا؟

,

عبد المنعم الجهيمي/ صحفي وكاتب من سبها

لطالما كانت ثلاجة الموتى بمركز سبها الطبي إحدى أهم المؤشرات التي نحدد بها مدى نشاط الجريمة في المدينة، ففي أحيان كثيرة تغيب الأرقام الرسمية وتصبح غامضة، خاصة فيما يخص القتل وماهية القتلى، فنجد أنفسنا نتجه لدار الموتى ونجتهد من عندنا في توصيف حجم الجريمة في فترة ما.

هذا الأمر يقودنا لذلك المكان غير المرغوب، ليس بسبب أنه يذكرنا بالموت فحسب، بل أيضا بسبب تلك الظروف السيئة التي تعيشها الدار وموظفيها، وبسبب الرائحة الكريهة التي صارت من معالمه، ولكن لابد مما ليس منه بد.

تقع دار الموتى في الطرف الغربي من مركز سبها الطبي، وهي عبارة عن مبنى مكون من ثلاثة أجزاء رئيسية، أولها القسم الإداري، ويضم غرفة الغفير ومكتب المدير وسجلات الوفيات، ثم يأتي القسم الثاني، وفيه مكتب الطبيب الشرعي المغلق على الدوام إلا نادرا، وأخيرا يأتي القسم الثالث، وفيه ثلاجة الموتى ومكان لتشريح وغسيل الجثث.

تصدمك الرائحة عند اقترابك من المكان، كإجراء احترازي نرتدي كمامات معطرة، ولكن الأخيرة تفشل دوما في منع تلك الرائحة من النفاذ إلينا، عادة ندخل إلى الثلاجة مباشرة، لنقوم بعملية عد الجثث الموجودة فيها وفرز المجهولة منها بمساعدة العم عبدالله.

عبدالله عثمان(58عام) غفير الثلاجة ومغسلها منذ أكثر من خمس وعشرين عاما، صار العم عبدالله من معالم المكان، وكل من يتعامل مع الثلاجة لابد أن يتعرف إليه جيدا، يقول إن وجود الجثث أمر يؤرقه منذ أكثر من أربع سنوات، فقد أخذت تتكدس بشكل غير مسبوق، وبعض الجثث يمكن أن تبقى في الثلاجة لأكثر من سنة.

تعوّد العم عبدالله على مشاهد الجثث التي يقع جلبها على الدوام للمركز، أغلبها مجهول الهوية، منها جثث متحللة وأخرى محترقة، جلّها تعود لجنسيات إفريقية، يقول عندما تصل الجثة نقوم بوضعها مباشرة في درج الثلاجة، بعد أن نستلم الأوراق المرفقة معها من الجهة التي حوّلتها للمركز، غالبا ما تكون تلك الجهة هي جمعية الهلال الأحمر التي تنتشل الجثث على الدوام من ضواحي المدينة ومكب قمامتها.

لفت انتباهنا ذلك العدد الهائل من المباخر التي تنتشر في أرجاء الثلاجة، لم ينتظرنا العم عبدالله لنسأله فبادرنا بقوله: إنه يشعل المباخر لتخفيف رائحة الجثث التي تعفنت داخل الثلاجة، يقول أحضر يوميا كميات من الجاوي والفيسوخ والوشق والشيح، وغيرها ليُبخر بها المكان، الغريب أننا لم نشعر برائحة البخور، فقد اختلطت برائحة الجثث ويبدو أن الأخيرة طغت عليها.

ويبدو أن هذا ما يدفع العم عبدالله إلى التدخين حتى داخل الثلاجة، يقول لنا متهكما: كيف بنتحمل الريحة هذي كلها كان ما اندخنش!!، يكمل عبارته وهو يسحب أحد أدراج الثلاجة ويخرج لنا الجثة الأخيرة لنلقي عليها نظرة.

قد لا نستغرب وجود هذا العدد الهائل من الجثث، ولكننا استغربنا وجود جثث لأطفال خدّج أو حديثي الولادة متناثرة في أرجاء الثلاجة، ويبدو أن هذه الجثث الوحيدة التي تثير اهتمام العم عبدالله، الذي اشتكى من إهمال بعض الأهالي لجثث أطفالهم، يقول العم عبدالله إن الشئ الوحيد الذي يبكيه في الثلاجة هو هذه الجثث، يعتقد أن هذه الأجساد الطاهرة لم يكن من اللائق أن توضع مهملة في هذا المكان، لذا يسرع دوما في غسلها وحفظها واغتنام أول فرصة لدفنها.

تتلخص مشكلة ثلاجة الموتى في تكدس الجثث، والثلاجة لا تستطيع دفنها إلا بإذن من النيابة العامة، والأخيرة لا تستطيع ذلك إلا بعد إطلاع الطبيب الشرعي عليها، والأخير لا يوجد في سبها بل هو مقيم في غريان، ولا يأتي لسبها إلا في حالات قليلة، فحضوره أيضا مرتبط بالوضع الأمني غير المستقر.

أكملنا عدّ الجثث كانت 26جثة كلها لأفارقة، هناك ثلاث جثث لأطفال خدّج لن يأتي أهاليهم لأخذهم، خرجنا من المكان والعم عبدالله يشاغبنا بدعوته لنا للمكوث معه في الثلاجة وتناول وجبة الغذاء، مع علمه بأننا نتحتاج لوقت طويل حتى تفارقنا رائحة الجثث ونستسيغ بعدها شيئا من الطعام.

فقد الموت هيبته ووقاره في ثلاجة الموتى بمركز سبها الطبي، ولعل هذا أمر طبيعي بعد أن فقد الإنسان قيمته في شوارع المدينة، وصار القتل والسطو من يوميات المدينة، فكيف نتوقع أن نحترم الموت بعد أن فقدنا احترامنا للحياة.

التدوينة ماذا يعني أن تكون ميتا في سبها جنوب ليبيا؟ ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “ماذا يعني أن تكون ميتا في سبها جنوب ليبيا؟”

إرسال تعليق