طرابلس اليوم

الجمعة، 29 ديسمبر 2017

ابن الشيخ

,

الهادي بوحمرة/ عضو الهيئة التأسيسة لصياغة مشروع الدستور

أبوه هو معلم الجامع، يأتيان للدرس معا، يجلسه بجانبه في صدر المجلس، والصغار في صف على اليمين، وصف على الشمال، هو في منأى عن أي عقاب، كان الشيخ حاد الطبع مع الطلبة، ليناً مع ابنه، عيناه بارزتان، تتسعان عند النظر إليهم، وتعودان لحالهما عند الالتفات إلي ابنه.  ليس لابنه  ما يميزه عن غيره، إلا أنه ابن الشيخ.  الشيخ ليس كأي فرد من الجماعة، وابنه ليس كأي من صغار الحي، ينتظر الصغار أمام حجرة تعليم القرآن إلي أن يصل الشيخ ومعه ابنه، المفتاح يحمله الابن، هو من يقوم بفتح الباب، وترك المجال لأبيه بالدخول والجلوس، ثم يتبعه ليتخذ مكانه بجانبه، ويأتي بعده دور بقية الصبية.

ابن الشيخ من يقوم بعرض لوحه أولاً، وبمحوه أولاً، وهو من يقوم بكتابة سورته الجديدة أولاً، ليتفرغ الشيخ من بعده للبقية جماعةً.  يعامل الشيخ الصغار بقدر قربهم من ابنه، وكأنه يستقى المعلومات منه قبل حضوره للدرس، فالمقربون من الابن قريبون من الشيخ، والبعيدون عن الابن بعيدون عن الشيخ.

تتغير مجالس الصبية بتغير علاقاتهم مع ابنه، هناك من يبحث لهم عن أي حجة لضربهم، وهناك من يتجاوز عن أخطائهم. من يريد أن يحظى بقرب الشيخ عليه أن يتقرب من ابنه، فرضا الشيخ من رضا الابن، وغضب الشيخ من غضب الابن، كثُر أتباع الصبي من الصبية، قليلٌ من الصبية، لم يحتمل تسلط ابن الشيخ، فتمردوا عليه، التمرد على الابن هو تمرد على لوازم البقاء في حلقة الدرس، لم يكن أمامهم إلا الابتعاد، كثيرون سكنوا لسلطان الشيخ وتسلط الابن، فالمسجد منذ افتتاحه تحت نفوذهم، فهو معروف باسم عائلتهم، وإن كتب على مدخله اسم صحابي جليل، المسجد في حوزتهم ومجلس تعليم القرآن تحت سلطتهم.

ترك بعض الصبية المسجد، وتنازلوا عن إكمال قراءة القرآن، لم يرضوا بدفع المقابل، رفضوا الانصياع لرغبات الصبي المدلل، نعتهم أهل الحي بالانحراف، ونعتوا أهلهم بضعف الأبوة. تمردوا على الصبي، فما استطاعوا احتمال البقاء مع أبيه، لا الصبي ولا أبيه يهتم لأمر من ترك الدرس، فهم قليل من المارقين.

الباقون في حوزة المسجد وحوزة الشيخ والصبي كثر، هم الغالبية الساحقة من الصبية. امتد نفود الصبي من المسجد إلي شوارع وملاعب الحي، فالصبي وأعوانه، لا يعنيهم من تركوا المسجد كثيرا، رغم أنهم يحاولون أن تكون لهم غلبة (ما) على الصبي خارج المسجد، لكن لا فائدة، فالصبية الواقفون دونه كثيرون، إنهم في حاجة إليه عند العودة للجلوس أمام الشيخ. تحول الأمر مع الوقت إلي عادة، سكن الخضوع لرغبات ابن الشيخ نفوسهم، كما سكن الوقوف عند رأي الشيخ وتجاوز هفواته ونزواته نفوس أبائهم، نمى ذلك داخلهم، أصبح الصبي في مقدمتهم، وهو ليس أفضلهم، لا مهارة لديه تقدمه عليهم، لا لسان له أفصح من لسانهم، لا ذكاء يفوق ذكاءهم، ومع ذلك هو دائما أمامهم، يقعد مع أبيه مقاعد الكبار، يجلس بجانبه في مجالس المآتم والافراح والولائم، غيره ينتظر خدمة المجلس في الخارج، العادات توجب على الصغار خدمة الكبار، لا يجلسون مجالسهم، ويكونون رهن إشارتهم.

وهم يمرون على الكبار، كانوا مضطرين لخدمة ابن الشيخ معهم، فهو بينهم، احترامه من احترام الشيخ.  عندما يصادفه أحد من أهل الحي مع أبيه، يبالغ في مداعبته دون غيره، يلاطفونه، يصغرون اسمه، يمسحون على رأسه، يحنون قاماتهم من أجل طبع قبلات على وجهه، يمتدحون كلامته، وأدبه، ووسامته، ويعرضون عن غيره، ولو كان بجانبه.  إنه ابن الشيخ، فهم لا يعاملون الشيخ كغيره من الناس، ولا يعاملون صبيه كغيره من الصبية، يقولون إن براءته تجدبهم، براءة لا يجدونها إلا في ابن الشيخ، يقولون إن روح الصغار هي من روح الملائكة، روح ملائكة لا يحسون بها إلا عند ابن الشيخ، وكأنها تختلف عن روح غيره من الصغار، يشيدون بحفظه لنصف القرآن، وكثيرون قاربوا من حمله وهم في نفس سنه لا يأتون على ذكرهم.

كبر الصبي وهو يعتقد أنه أفضل من غيره، وأنه صغير ليس ككل الصغار.  زرع داخله أبوه وأهل الحي شيئاً، لا موهبة تدعمه، ولا ذكاء يستند عليه، ولا مهارة يقف عليها، ظل يعتقد أنه ليس كغيره، تقدمت به السن، تجاوز مرحلة الصبا، وجد نفسه كغيره، لا تمايز بينه وبينهم، إلا أنه كان مميزا، ويجب أن يظل كذلك، كان عليه أن يفعل أي شيء، ليكون مميزا، لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئا مميزا ليكون مميزا، ليس أمامه إلا الاستمرار في الاعتماد على أبيه، فما زال في الأمر بقية، فهو من عائلة ليست كغيرها من العائلات، أهله هم واجهة الحي، لا أحد يجرؤ على أن يتزاحم معه، فأهل الحي يحترمون ماضيهم، فحق المواطنة في الحي يسير جنبا إلي جنب مع العرف والتقاليد والعادات، الناس مقامات،  والحاضر من الماضي، وأهل الحي أوفياء لماضيهم ولأصول شيوخهم، هو يدرك ذلك جيدا، ويفهم نفسية أهل الحي، ولو صدعوا رؤوس بعضهم البعض بالمساواة، وبأنهم لا فرق بينهم إلا بالتقوى، زاد دعمه بانخراط أخيه الأكبر في دواليب الدولة، مد الأخ يده إلي خزائنها، اجتمع لهم النسب والمال.

انقلبت المعايير، تراجع أخوه الأكبر، وتقدم أوسطهم ، نُصبت الصناديق، الاختيار من وراء حجاب لم يغير في الأمر شيئا، فقناعة أهل الحي راسخة، بأنهم مراتب، وأنه ليس هناك أفضل من نسل الشيخ بينهم، اختاروا أخاه الثاني، ذهب عبثا ما حاول منافسوه القيام به، ليس لنفرٍ تمادوا ونافسوه أن يغيروا ميراث الجدود، ولا أن ينزعوا ما في نفوس أهل الحي من تبجيل لصفوتهم، فهم وأبناء الشيخ ليسوا سواء.  لم يستغن ابن الشيخ عن رفاهيته حتى بعد أن عمت البلاد الفوضى، فهم في منأى عن ضيق العيش، فليس له أن يركب إلا مركوبه المميز. ما كان ذلك ليغيب عن أنظار من يترصدون لأمثاله، فكل ما لديه مغرٍ في وقت اشتد فيه القحط، وغاب فيه الأمن، ترصدوا له بعيدا عن الحي، قتلوه وسلبوا ما لديه، طريقة قتله لم تكن تعنى السرقة فقط، يبدو أن ما في نفوس القتلة أبعد من ذلك، ما كانوا بحاجة لتحطيم رأسه، ولا بتركه مجردا من ملابسه على قارعة الطريق، كل الدلائل تشير أن في نفوسهم شيئا لا يدركه أهل الحي، أو أنهم يدركونه ويتجاهلونه، الغلظة والتوحش تركت آثارها في الحي، فالحي فقد فلذة كبده، كم من الجرائم قد حدثت، لكن القتيل الآن ليس كغيره من المجنى عليهم، فهو ابن الشيخ، تحوم الشبهات على بعض من أبناء الحي، المعروفين بتمردهم من الصغر، والذين انشقوا على المسجد، وكونوا دولة داخل الحي بما جمعوه من سلاح.

يتهامس أهل الحي بينهم ويرددون أنهم لو كانوا صالحين لما تركوا مجالس القرآن وهم صغار، ولبقوا في حضن الشيخ، ولصبروا على التعليم.

 

التدوينة ابن الشيخ ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “ابن الشيخ”

إرسال تعليق