طرابلس اليوم

الثلاثاء، 27 فبراير 2018

وما أمس عنا ببعيد

,

عبد الفتاح الشلوي/ عضو المؤتمر الوطني العام السابق

لأن مشاكلنا اليوم ذات إرثٍ من الماضي، وعلى صلة به، حيث أنّ تأسيس الدولة الليبية الوليدة واجه العديد من الصعاب، وكثير من العراقيل، التي اضمحلت أمام واقع الأمس وظروفه، الذي نفتقده اليوم، وإن توفر لا توجد رغبة لدى البعض منا لتوظيفه، فولادة دولة ليبية كان حُلم ومراد شعبها الذي عاش في كنف سلطة الأخر، ولاقى منها صنوف الظلم والقهر، أخرها الإستعمار الإيطالي البغيض، الذي واجه مقاومة الليبيين، ناهيك عن صراع قوات المحور وقوات الحلفاء، وانتصار الأخيرة الأمر الذي ساهم في دحر المستعمر الفاشستي أحد أقطاب الأولى، دون إغفال لقيمة الدماء الطاهرة الزكية خلال حركة جهاد الليبيين .

لكن كل ذلك لم يمنع حركة اللاتوافق التي واجهت قيام دولة مستقلة يعيش عليها الليبيون ويتعايشون فيها في ظل نظام سياسي، وتوافق ديمقراطي، نعم كان ذلك أولى العقبات التي اعترضت قيام تلك الدولة، فقد تباعدت وجهات نظر الليبيين وتباينت عند وضع أسسها وركائزها ونظام حكمها، بين الشرق من جهة والغرب والجنوب من جهة أخرى، ولولا علو الحس الوطني والظروف الدولية بتلك الفترة لكانت الصعاب أكبر، ومآلات الفشل أضخم.

إن القيمة الروحية للملك إدريس السنوسي رحمه الله كانت تفوق سلطته السياسية بل وعملت على تعزيزها، ولذلك كانت عامل إذابة لكتل صلدة من الخلافات، وليس أدل على ذلك من خطوته البارعة والجريئة في ردم مشاكل مرحلة ما قبل الإستقلال والتي كانت شائكة ومعقدة، وتجميد ثأراتها وإرجاء نزاعاتها لما بعد تأسيس الدولة واستقرارها وقيام مؤسساتها القضائية، لاشك أنها فكرة وفرت على الليبيين الجهد والوقت، وحقنت دماءً، وحفظت أرواحًا، وحالت دون استنزاف رصيدهم لبناء دولة المؤسسات، ومنها وبها وولدت، وهو ما افتقدناه بكل أسف بمرحلة فبراير.

تعاضدت قيمة الملك الروحية –رحمه الله– مع حنكته السياسية، فوصل بالسفينة لبر الأمان، طبيعي أنّ بعض السلبيات طفت على السطح آنذاك، لكنها لم تشكل قيمة تراجعية في وجه المشروع السياسي لتوطيد أركان الدولة.

فدستور عام 1963 المعدل ما كان ليمرق بذات السهولة لو لم يصدر برعاية الملك أو أن يُنسب إليه ( بغض النظر عن حقيقة ذلك من عدمه)

لقد كان عدد السكان عندها يعادل سُدُس عددهم اليوم تقريبًا، ومساحة الدولة هى ذاتها لم تتغير، ومع ذلك فإن التباين الواضح بين مساحة الرقعة الجغرافية لليبيا مع توزيع عدد سكانها قد شكل عامل إذكاء لبؤر الخلافات بين الليبيين، جراء البعد المكاني، رغم وفرة وضخامة مواردنا الإقتصادية، واقتصار تركز السكان بالشريط الساحلي وكثافتهم بمناطق دون أخرى، وإخفاق مشاريع وخطط التنمية في وقف الهجرة للمدن وافراغ الدواخل من سكانها كل ذلك  جعل من الجغرافيا عامل هدم، وكانت القادح غير المرئي لشتاتنا السياسي اليوم، وقد لا يُقبلُ هذا التفسير، ويتحجج رافضوه بغيابه عن المشهد السياسي إبان سلطة سبتمر، وهنا نتفق معهم طرحًا، ونختلف موضوعًا، فسلطة سبتمبر لم تدع المجال مفتوحًا لمثل هذه الإشكاليات، ولم يكن بوسع أحدٍ أن يجروء على ذلك، فقد كانت من المحرمات، وتقع بدائرة المخاطر، ولعلها كانت أشبه بالحافظة السياسية، و” الترمس” الذي أبقى عليها بقلوب وأفكار البعض تحت تفسير كلٌ له مبتغاه، لكنها تبقى القبضة الخلاقة لسلطة سبتمر بالخصوص.

إن التركيبة القبلية لمجتمعنا كانت ومازالت تلعب الدور الأكبر في حياتنا السياسية، وأمامها المُتسع من الوقت لتلعب هذا الدور، وتظل الممازجة بين الطبيعة القبلية لمجتمعنا وبناء دولة المؤسسات ليست في حكم المستحيل، لكنها أشبه بمحاولة انتقال مجتمعات مصغرة للعيش على سطح القمر، فيم لو لم تتغير سلبيات مفاهيمنا .

هذا وقد جاء زمن المملكة متزامنًا مع خروج الليبيين من سلطة إستعمارية ظالمة، علقت أثارها السيئة بصدر مرحلة تأسيس الدولة، وجعلت الليبيين ينصاعون للسلطة بكل سهولة ويسر في ذلك الوقت، ناهيك عن رغبتهم المُلحة لبناء الدولة، كل ذلك ساعد على أمرين مهمين، الأول استقرار الدولة الوليدة، والثاني بناء مؤسساتها في زمن قياسي.

وجاءت عقود سبتمر الأربعة قاطعة لتتمة المشروع السياسي، وغيبت الليبيين عن الممارسات “الديمقراطية” إلا بظل النظام السياسي في ذلك الوقت، أو ما يُعرف بسلطة الشعب ممثلة بالمؤتمرات واللجان الشعبية، تحت مظلة الشرعية الورائية للعقيد معمر القذافي .

واليوم كيف السبيل للخروج من هذا المختنق؟ والذي لا ولن يتأتى إلا من خلال وعي سياسي يُجذر لنا بأن بناء الدولة يتطلب تفهم الأخر وقبوله، واستعداد كافة الأطراف لتقديم تنازلات لأجل تحقيق هدف أسمى وأكبر، وهو بناء دولة القانون والعدل والمساواة، والتحرر من فكرة السيطرة والإقصاء والسيطرة  على المشهد السياسي، والإيمان الطوعي بمبدأ المشاركة .

لكنّ هذا رهن بتطور عقليتنا السياسية ( عَمِدت لإستخدام تعبير عقليتنا السياسية بدل فكرنا السياسي من خلال واقعنا المعاش) فما من يوم يمر إلا وتزداد قناعتنا بأن الحاجة لتدارك عامل الزمن باتت أكبر من ملحة، وأن التوافق بكافة صوره وأشكاله هو النفق المأمون والمأمول لتخطي هذه المرحلة، والأهم من كل ذلك قناعتنا بأنه ليس عيبًا ولا معرة بأن تكون نظرتنا لمستقبل بلدنا الحبيب هى غير النظرة منذ السنين السبع المنصرمة، فما من كائن قابل للتطور أفضل من الإنسان، وما نحن إلا هو، ومهما اكفهرت الصورة فكثير من واحات الأمل تلوح يومًا بعد أخر، والليبيون بإمكانهم تجاوز هذه المرحلة وما سادها من خلافات، وما نتج عنها من أزمات .

التدوينة وما أمس عنا ببعيد ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “وما أمس عنا ببعيد”

إرسال تعليق