طرابلس اليوم

الأربعاء، 28 فبراير 2018

الهجرة أرقام وأوهام

,

عبد القادر الاجطل/ صحفي وكاتب ليبي

ملف الهجرة غير الشرعية في بلادنا ملف شائك، تتقاطع فيه مصالح دول، وينتفع من ورائه أفراد لا يهتمون بغير منفعتهم، وتُسحق في سبيل مصالح تلك الدول ومغانم أولئك الأشخاص إنسانية البشر.

يتطلع الفقير الجائع إلى ما يسد الرمق ويقيم الأود، ويحلم الضعيف الخائف بالأمان والاستقرار، تراود هؤلاء المحرومين من أبناء دول الجنوب أحلام الحياة السعيدة التي ينعم بها سكان دول الشمال.

الحياة في دول المصدر

دولة من دول جنوب الصحراء وأخرى جنوب شرق آسيا تستقران في ذيل قائمة الدول في معدلات الدخل ومستوى المعيشة، وتتصدران قائمة دول العالم في الفساد والبطالة وغياب الأمن، يعيش الإنسان فيهما عيشة بائسة ويحي حياة تعيسة، غاية أمل هذا الإنسان أن يغادر دولته، فهو لا يملك الكثير من الخيارات، فقط هو يختار بين موت مؤكد في بلاده من الجوع والقهر، وبين موت محتمل في طريق هجرته وانتقاله إلى حلمه السعيد.

هاجر أحد أبناء القرية قبل عشرين سنة وعقب وصوله إلى الدولة الأوروبية التي قصدها، مُنح حق اللجوء الإنساني، وأقام هنالك وتحصل على فرصة للعمل وتزوج وأنجب وعلم أولاده، وعندما عاد لأول مرة قبل عامين لزيارة أهله في قريتهم كان محملا بالهدايا وحكى للأقارب والجيران عن سهولة العيش في أوروبا، وفرص التعليم والعمل المتاحة، وشاهد الجميع قدرة أولاده على الحديث بأكثر من لغة أوروبية، ورأوا ثيابهم الجميلة، وأثار النعمة الظاهرة عليهم.

المهاجرون الذين وصلوا إلى ليبيا تعود أصول معظمهم بحسب تقرير الأمم المتحدة إلى دول إفريقية عدة عربية وغير عربية،  وتعود أصول أكثر من خمسين ألف منهم إلى دول أسيوية عربية وغير عربية أيضا.

 دول العبور

سيل المهاجرين المتجهين نحو أوروبا، يمر عبر دول أخرى تعرف بدول العبور، وتقول الإحصائيات الدولية إن عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى ليبيا – وهي إحدى دول العبور- ولم يخرجوا منها حتى الآن، يتجاوز السبعمئة ألف مهاجر بقليل.

المهاجرون يبحثون عن مكان أفضل من دولهم ومجتمعاتهم التي غادروها، حيث كانوا يفتقرون إلى الماء الصالح للشرب فضلا عن الطعام والكهرباء، فعندما يصادفون في طريقهم مكانا تتوفر فيه هذه المقومات المتواضعة للحياة، فإن الكثيرين منهم لا يستعجلون مغادرته ولا يمانعون من البقاء فيه لسنوات وربما استوطنوه.

الحدود المفتوحة

حدود طويلة مشرعة أمام العابرين، يصل من يعبرها إلى شواطئ مطلة على أكثر من دولة أوروبية، تغري المغامرين الذين ليس لديهم ما يخسرونه بأن يجربوا حظهم، هؤلاء العابرون خليط يثير مخاوف المراقبين، أما الطرق المؤدية من أقصى الجنوب إلى الساحل الشمالي، فإنها تمثل تحديا لهؤلاء الحالمين، ولكن المهربين المتاجرين بآلام الناس، لا يتورعون عن بيع الوهم لهؤلاء المساكين.

وعلى الرغم من أن دراسة بريطانية، خلصت إلى أن المهربين في ليبيا لا يشكلون شبكات منظمة، وإنما هم عبارة عن مسلحين يتحركون في مناطق نفوذ محدودة، فمما لا شك فيه أن شبكات من المهربين يوصلون المهاجرين وغيرهم من دول المصدر إلى الحدود الليبية الجنوبية.

وبالعودة إلى تقرير الأمم المتحدة الصادر في نهاية شهر فبراير 2018 نجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء المهاجرين الذين دخلوا ليبيا من الشرق والجنوب والغرب قد رصدتهم المنظمات التابعة للأمم المتحدة المختصة بالهجرة، عبر وسائلها المختلفة.

ولكن بقي هناك ألآلاف من هؤلاء الذين عبروا الحدود بطرق غير شرعية واختفوا ولم تتمكن المنظمات المختصة من رصدهم ولا تسجيل بياناتهم، وهؤلاء يشكلون قلقا لدى المتابعين، فبينهم يختفي أشخاص ليسوا من المهاجرين العاديين ولكنهم ممن يمثلون خطرا على بلد العبور وبلد المقصد كما كانوا يشكلون خطرا على بلدانهم الأصلية.

معايير مزدوجة

العالم المهتم بحقوق هؤلاء المهاجرين، والذي ملأ الدنيا نقيقا حولهم، يعمل سرا وجهرا على توطين أكبر عدد منهم في بلد العبور، حتى لا يصلوا إلى بلد المقصد، ويغطي على ذلك بمطالبات متكررة بإحسان معاملتهم وتوفير سبل العيش الكريم لهم.

ما يتجاوز السبعمئة ألف مهاجر، قد يغيرون التركيب الديمغرافي لدولة عدد سكانها أقل من ستة ملايين، وتتكرم دولة غنية بقبول مئة وخمسين مهاجرا من “العالقين” في ليبيا، اختارتهم وفق معايير صارمة، ويُنشر اسم هذه الدولة في لوحة الشرف !!!

ويبقى اسمنا ممرغا في الرغام، والمهاجرون هؤلاء يعيشون معنا، ويقاسموننا الحلوة والمرة، حتى إذا أساء أحدنا إلى أحدهم ضج العالم الغربي وتبعه الأفارقة مستنكرين، وسلقونا بألسنة حداد، ونسوا أو تناسوا الغالبية العظمى من المهاجرين الذين لم يتعرضوا للأذى، فاختاروا المُقام أو اضطروا له، فتحصلوا على فرصة عمل أو مكان إقامة أو أمل في تحقق ذلك.

مواعظ الأقوياء

المنظمات الدولية التي تتلقى الملايين من الدولارات، من أجل إنفاقها في دعم المهاجرين وتوفير فرص لهم في دول المصدر، أو إقناع دول المقصد باستقبالهم، انفقت هذه المبالغ الكبيرة في وجوه أخرى، وتركت المهاجرين يلاقون مصيرهم في دولة المعبر، واكتفت برصد ما يظهره الإعلام الغربي من فيديوهات وشهادات منزوعة من سياقها، لتلقي باللائمة على دولة المعبر، بقطع النظر عن كل ما تتكبده من خسائر، وما يعانيه سكانها من مشاق زادها سيل المهاجرين المنهمر، ويظهرُ العالم بمظهر المدافع عن قضية المهاجرين غير الشرعيين، بعد أن تغافل عن تنمية بلدانهم الأصلية، ولم يوفر لهم فرص العيش الكريم في أوطانهم، وأغلق بعد ذلك دول المقصد الغنية في وجوههم.

المواعظ التي يلقيها قادة البلدان الغربية، ورؤساء المنظمات الدولية، حول المهاجرين، يمكن وصفها بأنها ربما كانت مواعظ لذر الرماد في العيون والمحافظة على هذه المناطق العازلة التي تستقبل الملايين الزاحفين نحو أوروبا فيستوطنها البعض ويعود البعض الآخر منها إلى بلدانهم الأصلية بعد أن أعيتهم الحيل، فتنجو أوروبا من هذا الطوفان من الفقراء الذين يطرقون أبوابهم.

التدوينة الهجرة أرقام وأوهام ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “الهجرة أرقام وأوهام”

إرسال تعليق