طرابلس اليوم

السبت، 24 فبراير 2018

هل نعلم أطفالنا رفع رؤوسهم بدل أن نرفع أقدامهم؟

,

عبد المنعم الجهيمي/ صحفي وكاتب من سبها

لم أكن أظن أن وقوفي بساحة أحد المدارس في مدينة سبها، جنوب ليبيا، قبيل بداية تغطيتي لبعض نشاطاتها؛ سيكون له دور في توثيق ما ننكره على الدوام في المدينة، إنها الفلقة، وهي من أهد أدوات الضرب في المدارس وأشدها إيلاما، في السابق كانت لها طقوس ومراحل رسخت في أذهاننا جميعا، أما الآن فهي تستخدم بشكل عشوائي ومزاجي.

كنت واقفا في الساحة حين رأيتُ مُدرِسا يسوق أمامه ثلاثة أطفال يبدوا أنهم في التاسعة من أعمارهم، كنتُ أسمع رجاءهم له بأن لا يضربهم، توقعت أن الأمر اعتيادي وأنه يريد إخافتهم لاغير، ولكنه غاب ليعود حاملا الفلقة ليضربهم بها.

بعد أن تيقنت أنه سيفعلها مرت بي لحظات سريعة احترت فيها، هل أنصحه وأمنعه من ضرب الأطفال، أم أتركه يضربهم وأُوثِقُ هذه الحالة، ولكن الخيار الثاني كان الأقرب لي، كوني مهتم بمناهضة العنف، ودائما ما يقع مجابهتي بأني أُبالِغ وأن الفلقة غير موجودة، فكان قراري أن أكون شاهِدا وناقلا لما يحدث بحق هؤلاء الأطفال.

الحجرة يبدو أنها غير مستخدمة بشكل يومي فهي غير مرتبة والغبار منتشر فيها، ولا توجد بها غير طاولة وبساط صغير، كنتُ أسمع صراخ الأطفال قبل أن أصل لباب الغرفة، التي خرج منها طفل يصيح بأعلى صوته وهو يزحف على ركبتيه وقد اتسخت ملابسه، نظر إليَّ الطفل نظرة يائس، فقد انعدمت فرصة أن أتدخل لحمايته بعد أن ناله العقاب، بعد خطوات من الزحف، اعتدل جالسا ولازال يبكي وهو ينظر إلى مرآة كبيرة كانت في الغرفة، نظر لنفسه وهو على هذه الحال، لا أدري ما الذي كان يدور في خلده وقتها.

سارعت بالدخول حتى لا يفوتني توثيق حالة الضرب، وجدت الأستاذ وقد رفع قدمي طفل آخر في الفلقة، وكذلك يصيح الطفل بأعلى صوته وهو يعتذر من الأستاذ ويعده بأنه لن يُكرر الخطأ ثانية، كانت عصا المكنسة التي يستخدمها المعلم في الضرب قد انكسرت على هؤلاء الأطفال، نظرت إلى جورب أحدهم الذي كان ممزقا، وإلى ملابسهم التي اتسخت ووجوهم التي اعتلاها الخوف قبل الحزن، وحتى لا ينتبه الأستاذ سألته عن سبب ضربه لهم، فأخبرني أنهم كانوا في شجار بالخارج فأدخلهم ليربيهم.

خرج الأطفال من الغرفة وخرجت مع الأستاذ الذي ظلّ يتحدث عن مشاكل الطلبة آخر العام، في ساحة المدرسة تفطنت معلمة لوجودي، ونادت زميلها محذرة إياه من وجودي واحتمالية أن أصور الضرب، وكأنها تقول اضرب بس وراء الكاميرا لا أمامها!! استغربت أنها حتى لم تفكر في احتضان أحد الأطفال الذين رجوا من حجرة العقاب، أو لم تطيب خاطرهم بكلمة.

طبعا قمت بعدها بإيصال الفيديو لجهات الاختصاص المحلية في سبها وطرابلس، وكان ما كان من فصل المدرس، الغريب هو تلك الموجة من الاستنكار غير المبرر التي تزعمتها مدرسات وأساتذة، واكتملت الصورة بولي أمر الطالب المضروب، حالة من النكران والهجوم والارتباك عمت مشهد المدرسة.

مُدرِسات ومربيات فاضلات تحولن بين ليلة وضحاها إلى بلطجيات، إحداهن تتوعدني بالويل والثبور، وأخرى تهدد بالاستهداف والموت، وثالثة تخوفني بشهادة زور لفقتها دون أن ترى الفيديو وتعلم أنه يفند زورها بلا تعب، ورابعة تتوعد بالذبح!

وتوّج كل ذلك بموقف ولي أمر الطالب المضروب، والذي خاف على ابنه حالة نفسية سيئة جراء الفيديو، تلك الحالة التي لم تصب ابنه وهو يزحف على ركبتيه ويئن من وقع ضربات انهالت على قدميه وهو ممد على الغبار في غرفة مهملة داخل مؤسسة تعليمية.

في الغالب تهتم مجتمعاتنا بالشكل والظاهر، فقد يقبل أحدنا الإهانة غير الظاهرة للسطح ويتعايش معها ليس لحلها مستقبلا ولكن لأنها لا تمس جوهر شغلنا الشاغل وهو الظاهر، لذلك تجد الكثير لا ينتفض على القاهر بقدر ما ينتفض علي من فضح حالة قهره، فهو في الظاهر الفارس المقدام عند الشدائد وفكاك وحلها عند الأزمات.

حالة القهر التي يعيشها طلابنا اليوم تشبه تماما تلك الحالة التي عشناها في السابق، ما نعيشه اليوم من تخبط وعجز عن إنجاز بناء متكامل لدولتنا، والفساد الذي يعيث في مؤسساتها، هو نتيجة طبيعية لحالة القهر التي ترسخت في داخلنا، وبدون وعي نجتر تلك الحالة لأطفالنا، لسان حالنا( حتى احنا انضربنا شن صارلنا) وكأننا أنجزنا شيئا عظيما بعد كورس الضرب الذي تربينا عليه، هل ستنتهي هذه السلسة قريبا، هل سنعلم أبناءنا كيف يرفعون رؤوسهم بدل أن نرفع أرجلهم لممارسة ما نسميه تربية؟

التدوينة هل نعلم أطفالنا رفع رؤوسهم بدل أن نرفع أقدامهم؟ ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “هل نعلم أطفالنا رفع رؤوسهم بدل أن نرفع أقدامهم؟”

إرسال تعليق