طرابلس اليوم

السبت، 22 يوليو 2017

حكاية رجل عجوز (الجزء الثاني)

,
آية دخيل/كاتبة ليبية
قهواجي؟ طفق خليفة يفكّر، وهو يحاول أن يتصوّر عالم الشّركة الدّاخلي الّذي نسيه تماما، إنّه ليس بارعا في إعداد القهوة، كان يعلم هذا، وكان يعلم أنّ الوظيفة الجديدة لم تكن مقدّرة له في الأساس، مجيء المدير لبوابته لم يكن سوى لصرفه، إنّه لا يكترث لقهوته، وكان في الواقع مستعدا لأن يترك العمل، فقد كبرت بناته، وربّما بإمكانه أن يستريح بعد هذا الوقت، لكنّها كانت مجرّد أفكار، لازال بحاجة للمال، والوظيفة الجديدة كانت هديّة من السّماء، ورغم يقينه بعدم صلاحيته لم يحاول البحث في الأسباب الّتي دفعتهم لعدم التّخلي عنه، بيد أنّه شعر بها، ولم يكترث.
الشّركة بالدّاخل كانت عالما بحاله، مختلفا ومغايرا عمّا يتذكّر، كل شيء بدا جديدا ومنسجما، بداية من الموظّفين الّذين اندمجوا مع البناء حتّى صاروا جزء منه، بصلابته وجدّته، وانتهاء به هو نفسه، عندما حاول أن يستبدل ثوبه التقليدي ببنطال وقميص اشتراهما لأجل الرّغبة الّتي قرصته عندما شاهد البناء من الدّاخل، الرّغبة في أن يجد مكانه بينهم، وأن يكون واحدا منهم.
مراقبا وعلى مسافة من كلّ أحد، كان يهضم ما يراه بدهشة تشابه دهشة طفل صغير، وفيما كانت القهوة على الموقد تغلي، كان يجلس هو يتأمّل في البنات اللواتي يشعلن أنوار المكان بابتسامة كتلك الّتي تنعكس على وجوه بناته، ومرّ بخاطره الشّكل الّذي قد يكون عليه مستقبلهن، وهل سيتسنّى له الوقت ليراهنّ كما يرى بنات آخرين الآن، يملئن المكان، وأثار هذا الخاطر في نفسه كلّ اضطراب، وأحسّ بموجة من العطف تغزو قلبه تجاههن، وعندما جلسن ملاصقات له ينتظرن قهوته، كان ينهض هو بلطف إلى الموقد يعدّها بيد سخيّة إكراما لهنّ..
الوقت الّذي أمضاه في الشّركة سمح له بالخروج قليلا عن عزلته، لم يكن يتحّدث كثيرا، يكتفي ببضع عبارات يحيّي بها من يتقاطع طريقه وإياه دون تمييز، ورغم هذا.. استطاع بعد أشهر من المشاهدة والملاحظة أن يدرك الفروقات بين الموظّفين، لم يكن لديه الكثير ليفعله، لذا أمضى نهاراته يراقب ويعاين فيهم، في عاداتهم وتصرفاتهم، ردود أفعالهم وألفاظهم، دون قصد في البداية، حتى لازمته هذه العادة دون أن يشعر، فألفها واستأنس بها، كانت تحوز اهتمامه الإناث كأكثر ما يكون، بقدرتهن على جعل المكان ضاجا بالحياة في كل وقت، لم يكن مهتما بهن لأجله، هو شيخ متهدّم، هذا ما يراه في نفسه، وما يراه الآخرون فيه أيضا، لكنّ خليفة كان يلصق وجوه بناته عليهن، ويتخيّل -لأجل أن يملأ وحدته- أنّهن معه، وهذا قد بث في نفسه بعض العزاء، وغلّفه بقليل من الصّبر.
ولم يغفل عن الإحساس بكلّ المشاعر الّتي كانت تتركز في الأجواء بينهم جميعا، متّصلين ضمنيا، دون أن يعترف بعضهم لبعض، وإذ ظلّ يحاول أن يحشر نفسه بينهم، كانت البنات تفسحن له مجالادوما، بينما وقف الرجال أمام وجهه جدارا صلبا، يشربون قهوته دون يعنوا بأمره، غاضّين الطرف عن وجهه!
ولقد مرّ بجانبهم ذات نهار حاملا فنجان قهوة إلى المدير، بينما كانوا متحلّقين حول الطاولة يهمسون تارة و يتحدّثون بانفعال صاخب تارة أخرى، عن موضوع بدا أنّه مهم جدّا، ذلك أنّه قد استولى على انتباه الجميع، دون أن يشعروا به يمرّ من أمامهم، أو بالسّجائر تنطفئ بين أصابعهم، ولم يحاول أن يسترق السّمع، غير أن الكلمات جرّته من أذنه مثل طفل صغير، لكنّه شرع ينظّف الفناجين والغلاية محاولا أن ينشغل بذهنه عنهم، بيد أنّ محاولاته لم تفلح، استمع.. وتحدّث الرّجال.

التدوينة حكاية رجل عجوز (الجزء الثاني) ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “حكاية رجل عجوز (الجزء الثاني)”

إرسال تعليق