طرابلس اليوم

الاثنين، 19 فبراير 2018

سبها جنوب ليبيا… احتفالات وسط المجاري

,

أذكرُ حين كنتُ صغيرا قبل أكثر من عشرين عاما؛ وأنا أتابع النشرات، حيث ذلك التوتر الذي يُصاحِب احتفالات الكاثوليك والبروتستنت في أيرلندا الشمالية، حيث تتناقل الأخبار أنباء المخاوف المصاحبة لمسيرات البروتستنت الذين يُصِرون على مرور مسيراتهم الاحتفالية عبر عدة شوارع يقطنها كاثوليك.

في ذلك الوقت كنت أتساءل لما يقع هذا الخوف والوجل رغم كونهم من ديانة واحدة وبلد واحد، لم أكن أعلم بعد الفروق بين المذهبين والتاريخ الدموي بينهما، واختلاط كل ذلك بالنزعة الاستقلالية في أيرلندا الشمالية التي تصطدم مع فريق آخر يرغب في البقاء ضمن التاج البريطاني.

قد يكون من المجحف أن أُشبِه ذلك بما يحدث في مدينة سبها جنوب ليبيا، التي لم تتعافى من ذلك التوتر القبلي، توتر يترجم أكثر من مرة في صورة اشتباكات لا تستثني أحدا من سكان المدينة، ليتدخل الأعيان فتهدأ تلك المناوشات، ويلحقها موجة من القتل والقتل المضاد من كل الأطراف، لا تتوقف وتيرة القتل والتصفية حتى يسقط أحد الذين ينتمون لعائلة كريمة أو ذات نفوذ فتقوم حرب جديدة وهكذا الحال لسنوات.

انعكس ذلك على المدينة وجميع نواحي الحياة فيها، فالمباني الحكومية صارت مستباحة لكل كتيبة ومجموعة مسلحة هنا وهناك، كل قبيلة تستبيح ما يقع في نطاق نفوذها من مؤسسات حكومية ومدارس وغيرها، وتجد لها بالطبع من يشرعن هذا الوضع أو يدفع الناس لتقبله أمرا واقعا، ولا بأس أن يستشهد بفعل خصماء قبيلته، ولسان حاله يقول :امشوا طلعوا القبيلة الثانية من الأماكن اللي فيها قبل لاتجونا.

وليكتمل المشهد تتقاسم القبائل المتناحرة مناطق النفوذ المدينة، وعندما نتحدث عن النفوذ هنا فهو يعني كل شئ، نفوذ الكتائب التابعة للقبيلة، ونفوذ حق التمتع بالسلطة في هذه الأماكن، بل حتى نفوذ حق ممارسة الحرابة، فالمدينة فعليا مقسمة لدوائر وجزر وكل ممارس للحرابة يعرف حدود نفوذه وأين عليه ممارسة عمله.

تكيّف أهل سبها مع هذا المشهد وصاروا يكيفون حياتهم عليه، فحين يخرج أحدهم راجلا يلبس العادي من الثياب ولا يحمل معه أمواله، ويقتني لهذا الخروج هاتفا رخيصا ليُقلِل الخسائر في حال وقع فريسة لأحدهم، كما يحاول اختيار أوقات الذروة والشوارع الأقل خطرا، وكذلك حين يستقل سيارته، ومع اقتراب غروب الشمس يبدأ ما يشبه حظر التجول الطوعي، وهو الخيار الأسلم الذي اتخذه أهل سبها حرصا على السلامة قدر الإمكان.

صعوبة الحياة تتواصل في زحمة المصارف والمخابز والبنزين والغاز، في تلك الطرق المهترئة والمباني المتهالكة والمجاري الطافحة.

ومع اقتراب ذكرى سبتمبر يُصِرُ الكثير من السكان على الاحتفال وسط ذلك البؤس الذي تعيشه مدينتهم، ويصرون على أن يشاهدهم خصومهم وهم محتفلين، والعكس صحيح حيث يعشق الآخرون إغاظة خصومهم في عيد فبراير ويتعمدون المرور أمامهم لمشاهدتهم وهم يحتفلون.

ولكن حين أنظر لحال المدينة أستغرب هذا التسابق في الاحتفال فوق المجاري والأوساخ والدمار والقتل والحرب، وسط فشل بدأه النظام السابق الذي كان عجره ظاهراً في إدارة التنمية داخل المدينة، وأكملته حالة ما بعد فبراير التي أضافت إليه فقدان الأمن واختلاف القوم وحالة الضياع، حتى مع قصور الجهات الحكومية المسؤولة لم ينجح أهل المدينة وحدهم في أي شئ، فلن تجد شوارع نظيفة أو مؤسسات خاصة محترمة، حتى الأشياء التي من الممكن أن يشتغلها المواطن ولا ينتظر فيها الدولة لن تجدها في سبها.

الشيء الوحيد الذي يتحمس فيه الجميع وتُبْذلُ فيه الأموال هو الاحتفال، كل عام تخرج المسيرات الاحتفالية لكل فريق لتجوب الشوارع البائسة والمبان المتهالكة، وتقطع بحيرات الصرف الصحي وأكوام القمامة، ويضع الأهالي أيديهم على قلوبهم مخافة وقوع اعتداء على هذه المسيرات من خصومهم، نترقب كل الاحتفالية ونتسقط أخبارها وخطة سيرها، ونتمنى أن لا تمر في شوارع الطرف الآخر؛ وإذا مرت يظل الجميع في قلق ووجل وخوف، في تلك الحظات يتوقف مصير المدينة على عمل متهور يقوم به أحد الطرفين ليُشْعِل نار حربا ضروسا.

مشهد يشبه في بعض جوانبه مشهد أيرلندا الشمالية وسجال الكاثوليك والبروتستنت فيها، ولكنهم توصلوا إلى حل استقرت به بلادهم، فهل يقع هذا في المدينة المنكوبة سبها، التي تعجُ هذه الأيام بالأعيان والمبادرات والأطروحات وحمائم السلام؟

التدوينة سبها جنوب ليبيا… احتفالات وسط المجاري ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “سبها جنوب ليبيا… احتفالات وسط المجاري”

إرسال تعليق