آية دخيل/كاتبة ليبية
كل شيء يبدأ صغيرا ثمّ يكبر، مثل طفل يولد، يكبر فيحبو، وتكبر معه آماله وأحلامه، ثم يصير رجلا فجأة، قد لا يشعر بصوته يصبح أخشن، ولا بالّلحية تغزو ذقنه، لكنّه يراها في عيون الآخرين، تنعكس في نظراتهم وانفعالاتهم تجاهه، وكيف يصير مسؤولا عن كلماته وأفعاله واختياراته، بعد أن كان طفلا شقيا لا يبالي، وتبدو هذه الأحداث والتّحولات والإنتقالات، واضحة وصريحة، بشكل يدعو للضّحك في أحيان كثيرة، في الإحتفالات الشّعبيّة والمناسبات، الّتي تضيع فيها الحواجز بين الكبار والصّغار، فيختلطون ويمتزج كلّ فوج بأخر كساحة معركة، كلّ واحد فيهم يلقي بما عنده، الأطفال بألعابهم، والكبار بحكاياتهم الّتي تروى همسا مخافة أن يسمعها الصّغار، ورغم اندماجهم إلّا أنّ كل واحد فيهم يعرف إلى أي مجموعة ينتمي.
خذ العيد مثالا، كنت صغيرا فيما سبق، بالتّالي تعرف كيف تسير الأعياد، وتعرف أنّ لكلّ شخص فيها دور يلعبه، لكنّك تعجز عن معرفة أي جماعة تختار، فلقد عهدت نفسك دوما صغيرا، ترتدي الجديد، وتأكل الحلوى، وتأخذ العيدية والهديّة ممن يمنحها، هذا ما يفعله الأطفال، وهذا ما فعلته أنت، سنة بعد سنة، لم تلحظ أنّ الهدايا تتضاءل شيئا فشيئا إلى أن تلاشت، وأن الّلعب والمسدسات البلاستيكية لم تعد تستهويك ، لم تعد تثرثر كثيرا كما سبق، وأصبحت -بشكل يدعو للإستغراب- أنت من يمدّ يده لجيبه لكي يعطي العيدية للوجوه الصّغيرة الّتي تتطلع إليك، وهذا يعني أشياء كثيرة، أهمها أنّك كبرت حقا، هذا ما يراه الأطفال، وهو ما يصدّق عليه الكبار بنظراتهم الّتي تحيّيك وأيديهم الّتي تشدّ على يديك، وقد يبث فيك هذا التحوّل الّذي حدث بغتة كل الفرح، فلقد تحقّق أخيرا ما كنت تتمناه، أن تصير رجلا،
بيد أنّ التبدّل الّذي يحلّ بشخصك يأخذ شكلا أكثر جدية، أكثر جدية من قطعة حلوى وعيدية، بداية من الطريق المعبّدة الّتي كنت تسلكها، الآن عليك أن تشقّ طريقا أخرى بنفسك، الكل يتفق على هذا، لكنّ أحدا لم يجعلك مستعدا، لتحمّل هذه المسؤولية الّتي نزلت عليك على حين غرة، دون أن تكون جاهزا لها، لكنّه دين تسدّده، فعجلة الحياة تستدعي حركة وتبدلا مستمرا، الأطفال يصبحون رجالا، والرجال يمسون كهولا، هذه الدّنيا، والآن هو دورك لتأخذ مكانك فيها، وقد لا يتلاءم الجميع مع حقيقة أنّ هذا التّغيّر ليس موضع اختيار، ذلك أنّه سنة الكون والطبيعة الّتي جبل عليها، بل يتعثّرون، ويفشل فريق في الاندماج مع البيئة الجديدة الّتي ينتقل إليها، لا يلقون بالا لالتزاماتهم وواجباتهم، وإن ليس عن عمد، إنما كطبع سبق وامتد في أعماقهم مذ كانوا صغارا،
وبهذا قد تتسرّب إلى نفوس الأخرين بعض المخاوف، من الحمل الّذي يوضع دون تمهيد فوق أكتافهم، وتريد أن تهرب من كل هذا، لتذرف كل دموعك ولتتكئ بكل أحزانك على كتف أحد الكبار ، وعندما تتذكر أنك الكبار، وأنك الجناح الّذي يتكئ عليه الآخرون الآن، تعي حينها حقيقة الطريق الّذي تسير عليه، الطريق الّذي يقود ولا يعود، ومع هذا تطمئن، ولا تتوجس، فالطريق وإن كانت لا تعود بأحد، هي على الأقل واسعة ومليئة بكل أنواع المفاجئات، تفتح الدنيا أبوابها إليك، لتعمرها، ولتأخذ بيد الصغار الّذي كنت مثلهم يوما، ليس على الأمر أن يكون سهلا، لكنّه محتمل، ويمكن في النهاية للواحد أن يتقبّله ويحبّه، ويتعايش معه.
التدوينة كلّ شيء يبدأ صغيرا ثمّ يكبر ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.