طرابلس اليوم

الخميس، 22 يونيو 2017

درنة الإبداع من رحم المعاناة

,

عبد الفتاح الشلوي/ عضو المؤتمر الوطني العام السابق

في مساحة محصورة بين الجبل وشاطئ البحر ترقد مدينة درنة علي شريط زراعي ضيق، رغم أنه أمدَ أهلها ومازال ببعض المنتوجات الزراعية. صحيح أن مسألة الاكتفاء الذاتي لها أصبحت الآن في حكم المستحيل، نتيجة لتمدد المدينة وازدياد عدد سكانها، وزحف الأسمنت علي بساتينها، والتهام مساحة كبيرة منها، سلبها سمة من جمالها ونضرتها، نتيجة للكسب الذي يجنيه البعض من تشييد المساكن والمحال التجارية، وتسابق أصحاب ( السواني* ) للبناء والتشييد، وزادت وتيرته بعد ثورة فبراير، بعد أن تجاهل الملاك قانون رفع الصبغة الزراعية، والذي كان يمنع البناء علي المساحات الزراعية، إلا في حدود قلما يحوزها أصحاب النفوذ والمعارف، وإن كانت قليلة ولا تكاد تذكر، ناهيك عن العبث بمجرى مياه الشلال الذي كان يسقي تلك البساتين، وأصبح من أطلالها، يتغنى به شعرائها وكتابها.

 

تمتعت المدينة بخاصية حضارية هامة، تمثلت بقربها من جمهورية مصر، الأمر الذي أدى لاحتكاك أهلها بالحركة السياسية والفكرية التي شهدتها مصر خلال القرن الماضي، وما قبله، وقد كان تأثير المد الناصري واضحا وجليا بمدينة درنة، ونما بها كما ببعض المدن الليبية الأخرى، لكنه كان يلاحظ بشكل أكبر بين شبابها ومثقفيها، زد علي ذلك ما أحدثته القبائل الأندلسية المهاجرة والتي وفدت إليها، ومعها شهدت المدينة نمطا جديدا بالعمران والزراعة وحلقات العلم.

 

ويصف البعض درنة بمدينة الرفض، وإن كان منهم من يذهب لوصفها بالرفض المطلق، في تجاوز لأبجديات المنطق، ولا نريد هنا أن نتحدث عن تاريخ المدينة منذ ما قبل دولة الاستقلال، فقط سنعرج على مرحلة الاستعمار الإيطالي وتسويرها، واقتصار نافذتها علي ثلاثة مخارج ليس بالإمكان تجاوزها، حتى يقطع التواصل مع المجاهدين ضد الاستعمار الإيطالي، ولا يتحصلون علي الزاد والسلاح، وخلال زمن المملكة لم يكن الود بينها وبين النظام يؤدي للرضا التام عنها، واتسمت العلاقة بفتور يزيد وينقص، أما خلال سلطة سبتمبر فقد تولد العداء بشكل مبكر، حينما تحرش جند الحامية بسكانها سنة 1971م واستفزوهم، حتي وصل الأمر للمواجهات بينهما، استعمل فيها الجند السلاح، وأصيب عدد من شبابها، ما أدى لتفاقم الوضع وخروج مظاهرات تندد بما قام به أفراد الحامية، وتطالبها بالرحيل هاتفة ( بالجلاء الجلاء . لا كتيبة في درنا ** ) وبالفعل غادرت الحامية، وبمغادرتها نُسج بُسطٌ من العداء والكراهية بين السلطة والمدينة، بلغ ذروته عندما زارها معمر القذافي واستُقبل بأعداد قليلة، وعلى ضوء تلك الزيارة تم ضمها لبلدية الجبل الأخضر، وأضحت درنة فرعا بلديا، طبيعي ألا يرق ذلك لأهلها، وهم من يتفاخرون بأن معلميها بددوا ظلام الأمية بمحيطها حتى وصلوا  لجبل غريان والواحات الخمس، منها هون وزلة، ويعتبر الدراونة من دعائم تأسيس الخارجية الليبية، والحركة المصرفية بليبيا، يقر بهذا تاريخ المدينة.

أثناء اندلاع ثورة فبراير قدمت المدينة خمسة شباب في يومها الأول، و 103 آخرين سقطوا موزعين بين مدن ليبيا، جاء إهمالها من قبل السلطة السبتمبرية بشكل واضح، وانعكس عليها سلبا.

سيطر تنظيم داعش علي المدينة، وأصبح يتحكم فيها إلى أن تم طرده من قبل شباب المدينة وعلي رأسهم مجلس شوري مجاهدي درنة وضواحيها، ورغم تلك التضحيات الجسام والتي بلغت 246 شهيدا إلا أن المدينة تركت تعاني مصيرها لتقلبات الزمن، ولم تهتم بها الحكومات الثلاث، وضُرب عليها حصارجائر ومازال إلى يومنا هذا، ليس له من وصف إلا بأيام العصور الوسطى، فمنع عنها الوقود والغاز ومواد البناء، وأصبحت البوابات والمنافذ تفتح  وتقفل وفقا لمزاج أعضاء البوابة، ويتم القبض علي أبناء المدينة بسبب أو دون سبب. غير أن الحصار دفع بأهل المدينة لهضمه من خلال إيقاد الميراث الثقافي والرياضي للمدينة، فاشتعلت الأنشطة بالأزقة والشوارع والساحات، وتزاحمت الأنشطة الثقافية، والرياضية، وطغى العمل الأهلي والخيري، في محاولة لكسر بؤس الحصار، وإشاعة جو من البهجة والفرحة بين أطفالها الذين اكتوت أنفسهم بويلات المعارك وقصف الطيران الأجنبي وكذلك التابع لعملية الكرامة.

فهل ستنجح المدينة في الإفلات من طوق الحصار الجائر وتتنفس الصعداء وتبدو بوداعتها المعهودة ؟ أم أنها ستستمر تناطح المعاناة بروح التحدي ؟

 

*  يطلق أهل المدينة هذا الاسم علي مزارعهم الصغيرة

 

** درنا كتبت هكذا تمشيا مع نسق الهتاف وهي درنة

التدوينة درنة الإبداع من رحم المعاناة ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “درنة الإبداع من رحم المعاناة”

إرسال تعليق