طرابلس اليوم

الأحد، 9 يوليو 2017

الترجمة ونهضة الشعوب

,

عمر الككلي/ بوابة الوسط

التواصل بين الشعوب ضرورة موضوعية لا محيص عنها. حتى الحروب تعتبر نوعا من التواصل قد ينشأ عنها تنافذ ثقافي، وبما أن لغات الشعوب تختلف وتتنوع فلا مناص من وجود نشاط وسيط يمكن من عملية التواصل هذه، هو الترجمة، حيث ينهض أشخاص اكتسبوا لغة أخرى، أو أكثر، غير لغة قومهم، وبهذه الدرجة أو تلك من الكفاءة، بدور قناة التفاهم بين طرفين لا يفهمان لغة بعضهما.

 

كانت الترجمة في بداياتها شفوية تقتصر غالبا على المعاملات، مثل المفاوضات أثناء الحروب والمعاملات التجارية حيث، الاتصال مباشر ويمكن أن تغطي الإشارات النقص في سيطرة المترجم على لغة الآخر، أو حتى على اللغتين اللتين يلعب دور الوسيط بين طرفيها إذا لم تكن أيا منهما لغته الأم. ويذكر (1) أن أفكارا ومفاهيم واردة من الشرق، من الهند والصين والعراق بشكل أساسي أثرت في الثقافة الغربية منذ القرن السادس قبل الميلاد. “وذلك بفضل الروابط التجارية التي انعقدت بين الهند وبلدان البحر الأبيض المتوسط” (1). و “العديد من نظريات أفلاطون وغالن الطبية اليونانية حملت تأثيرات معتبرة من الطب الهندي” (1). والأرجح أنه تم تناقل هذه الأفكار مشافهة وليس كتابة.

 

بخصوص الترجمة الكتابية فإن أقدم ترجمة (2) من هذا النوع وصلتنا تعود إلى حوالي الألف الثانية قبل الميلاد وموطنها وادي الرافدين، حيث ترجمت ملحمة غلغامش السومرية إلى لغات آسيوية. وثمة ترجمات قديمة أخرى من مثل تلك التي قام بها رهبان بوذيون بترجمتهم وثائق هندية إلى الصينية.

 

لا يستهدف هذا المقال التأريخ لفكرة وعملية الترجمة، وسنكتفي، بعد هذه المقدمة، بالإشارة إلى أقدم عملية ترجمة مؤسسية في التاريخ الإسلامي وجهود ترجمة الكتب العربية إلى الإنغليزية في بريطانيا القرن السابع عشر.

 

لا شك أن علاقة العرب بالترجمة، بالمعنى الأولي والعام، قديمة قدم نشوء المعاملات التجارية وبعض أنواع المعاملات الأخرى مع جيرانهم. وهذه الترجمة شفوية. لكن الترجمة التحريرية التي تشرف عليها، إلى هذا الحد أوذاك، الدولة، بدأت مع الدولة الأموية. فقد “اتفق المؤرخون العرب والأجانب على أن الأمير ‘خالد بن يزيد’* هو أول من أمر بنقل المصنفات الإغريقية والسريانية إلى اللغة العربية وقد كانت مختارات من ميادين عدة ومختلفة نذكر منها: الطب والفلك والكمياء، كما أن الخليفة الأموي ‘عمر بن عبد العزيز′ هو أول خلفاء ‘بني أمية’ الذي أبدى اهتماما بالترجمة والدليل على ذلك تكليفه للطبيب اليهودي البصري ‘ماسرجويه’ بنقل كناش للطب لـ’أهرن’ القس من السريانية إلى العربية”

 

أما في العصر العباسي فـ “يعد الخليفة ‘أبو جعفر المنصور’** أول خليفة وجه جهود الدولة إلى علم الترجمة، فقد عرف باهتمامه بميدان علوم الفلك والنجوم مما جعله يولي اهتماما بهذا الميدان وبكتب الأسلاف والأجداد وهذا ما يفسر اهتمامه المطرد بمعرفة ما كتبه السلف، فعمل على سبر غور عالم الفلك من خلال الترجمة فأمر على عهده بنقل كتاب ‘أقليدس′ المسمى’كتاب أصول الأركان’ وبعده كتاب ‘الهند والسند’ وهو مؤلف هندي يهتم بعلم النجوم ثم الكتاب البديع لصاحبه ‘عبد الله ابن القفع′ ‘كليلة ودمنة’ ذي الأصل الهندي ثم انتقل إلى مستوى آخر وهو ترجمة أمهات الكتب اليونانية خاصة تلك التي كتبها فلاسفة كبار أمثال: “أرسطوطاليس” و”بطليموس”

 

إلا أن الترجمة المؤسسية الأكثر جدية وتأثيرا كانت في عصر المأمون*** الذي أسس “بيت الحكمة” ذائع الصيت في بغداد. وخلال هذه الفترة أرسلت البعثات العلمية “إلى منبع العلم ومهده وهي العاصمة اليونانية ‘أثينا’ نفسها، فتمت مراجعة ترجمات سابقة لتوافق التقدم الذي أحرزته اللغة العربية من حيث المفاهيم الجديدة والمصطلحات العلمية الدخيلة وخير مثال على عملية التكرار هذه أذكر: كتاب المجسطي لبطليموس الذي كانت قد تمت ترجمته لأول مرة في عهد المنصور وتمت إعادة ترجمته ثانية في عهد هارون الرشيد.

وتميز مشروع الترجمة في هذه الفترة بالالتفات إلى “مواضيع ومجالات جديدة كالرياضيات والتاريخ الطبيعي والأخلاق والنفسيات والفلسفيات والطب. حيث صار ميدان الفلسفة مجالا مهما للعرب أكثر مما كان عليه، حيث قاموا بدراسة مصنفات أرسطو وفهمها بكتب شراح يونانيين أمثال: الإسكندر الافروديس، وبذلك صارت متداولة ونظرت لماجاء بعد ذلك من مفاهيم ونظريات فلسفية إسلامية ناشئة في القرن 4هـ.”

 

في ما يخص نشاط الترجمة من العربية إلى الإنغليزية، ناهيك عن أوروبا، في القرن السابع عشر سنكتفي بمثال دال، وهو خطاب الملك تشارلز الأول في فبراير 1634 يأمر فيه شركة الشرق بأن تلزم سفنها “أن تحضر في كل رحلة مجموعة من الكتب المخطوطة العربية أوالفارسية […] إن المتبرع بمثل هذه الحمولات يعتبر في رأينا من المحسنين”

 

ويبرر أمره هذا في مقدمة الرسالة قائلا: “يوجد في هذه المخطوطات كنز من العلوم، ومعرفتها فرض عين علينا، وهي مكتوبة باللغة العربية، كما أن جامعاتنا كلها تعاني النقص الشديد في مثل هذه المعارف التي تحملها العربية”. ويقول: “… نلوم أنفسنا من جهة، لصبرنا على النقص الشديد في الكتب العربية والفارسية، والتي ينتظرها طلابنا بفارغ الصبر للاطلاع عليها وفهمها، ومن جهة أخرى لانعدام الفرصة والوسيلة التي تمكنهم من هذه الكتب”

 

يتضح من المثالين أعلاه أهمية الدور الذي تلعبه الترجمة، ليس في مجال التواصل الثقافي والإنساني فقط، وإنما في نهضة الشعوب الفكرية والعلمية، وبالتالي، الحضارية.

 

التدوينة الترجمة ونهضة الشعوب ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “الترجمة ونهضة الشعوب”

إرسال تعليق