طرابلس اليوم

الأربعاء، 21 يونيو 2017

بين أحضان التريلّا

,

آية دخيل/كاتبة ليبية

الظّلمة تخنق الخارج، أما داخل التّريلّا الّتي يسكنها شرطيّ المناوبة فقد تعالت أنغام الموسيقى الرّاقصة، تبثّها قناة هنديّة مشوّشة تسلّي المنهوكين والمسحوقين من سباق النّهار، كلّ شيء بدا على حاله، مستوحش قليلا لكنّه مع هذا المعتاد والمألوف، الملابس القذرة في الرّكن جنب لوح الغسيل، قفّة الخضراوات على طاولة واطئة، وقطعة خبز جاف ترك في العراء لأيّام، الشّرشف الملقى بعبث على فرشة تضمّ جسد الشّرطيّ بحنان، لم يستطع أن يجده بعيدا عن هذا الفراش الّذي يتّكئ عليه بكلّ أحزانه، وحيدا ومكسورا، لا أحد يرى أو يسمع، في هذه التّريلّا الّتي تضيع بين رمال المعسكر، تركوه هنا في هذه الأرض المقفرة رفقة الجنون والشّياطين، يحرس لا شيء سوى هوسهم الغير مقنع البتّة بالبروتوكولات والأصول، متجرّعا أحزانه مع كأس الشاي الأحمر المعجون رشفة رشفة، ندب حظه التّعس الّذي ألقى به هنا، في هذه البقعة الّتي يغيب عنها البشر، حتّى أنّه بدأ يشكّ في وجوده من طول المدّة الّتي مكثها حبيس حكة السّردين هذه، وقال لنفسه “مش كان قريت زيني زي الشبيبة خيرلي، شن جابني ليها هالكتَيبة الغبره، وأنا حتى راتب ما صرفولي” وتذكّر المثل الّذي اعتاد والده أن يردده “جي يعاون فيه على قبر أمه، هرب بالفاس وخلاه” هو الّذي لم يطمع بالرّاتب في البداية، بل أراد أن يتطوّع كما يتطوّع المتطوّعون، لأجل الوطن! وظنّ أنّه بهذا يسدي هؤلاء الكلاب الذين تركوه خدمة ، هو في الحقيقة فعلها لأجل السّلاح والغنائم، لم يقلها صراحه ، لكنّ بعضا من ندم قبض قلبه فجأة، هل كان محقّا؟ هل حبسه هذا يكون جزاء نواياه الخسيسة؟ من يعطيه الإجابات؟ إنّه يكاد يجنّ، واستمر يقضم أظافره مع شكوكه، متذمّرا من عمله الّذي لم يجلب له إلّا التهاب المفاصل جرّاء استلقائه طوال اليوم على فرشته الحنون، تناهى له وقع أقدام بالخارج، أردف السّمع، لم يكن الصّوت بعيدا، بل قريبا جدا كما لو أنّه يأتي من داخل  الّتريلّا نفسها، حاول أن يستعمل حواسه كشرطي حابسا أنفاسه، ثمّ تذكّر أنّه لم ينل تدريبا حقيقيا، ومرّ بذاكرته اليوم الّذي سلّموه فيه زيّه والمسدس الّذي تفاخر  به طويلا قبل أن يدرك أنّه لا يقتل قطّه، عصره الخوف لمّا أدرك أنّ الجلبة تصل من فوق التّريلّا، ربّما كانت بعض خفافيش، أنا العاجز الجبان، قال لنفسه، لكنّ قرع البلغة على السّطح المعدنيّ كان أوضح من أن يتجاهله، وذكّره الصوت بالقرع الّذي كان يحدثه حذاء جدته وهو يصطدم ببلاط السّقيفة، وحاول أن يتناسى ذكرى بعيدة حكى فيها له جدّه عن أشياء تدبّ في قلبه الآن كل رعب، أتراها غولة؟ ابتلع ريقه مرتبكا لا يدري ماذا يفعل، انطلق يجري يفتّش في صرّة ملابسه عن مصحف، ولم يجد، وتذكّر أنّه لم يصلّ العشاء، ولا المغرب، ولا العصر، وفاجئه الباب يخبط، من ينقذه الآن، وتراءى له شريط حياته، هل هذا حقّا ما كان يريده، أن يتعفّن هنا، مضحيا بروحه الثمينة لخنازير لا يدرون بوجوده حتّى، إنه إن عاش بعد سوف لن يبقى، وسيرمي مسدسه الضئيل على رفاقه الّذين لم يكونوا سوى حفنة من الحشّاشين، سوف يلقي بهذه الحياة خلفه، غير أنّ دويّ الخبطات أيقظه، ليكن ما يكن، همس لنفسه، سأكون رجلا لمرّة، لمرّة واحدة فقط، تحرّك نحو الباب ببطء يحمل هراوة خمّن أنها ستسبب ضررا أكثر من مسدسه، وضع يده على القفل بخفّة، و… اندفعت نحوه الأجساد، أجساد رفاقه المنقوعة في وحل مخدّر ما، “ردّها في الغولة” تنهّد.

التدوينة بين أحضان التريلّا ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “بين أحضان التريلّا”

إرسال تعليق