طرابلس اليوم

الاثنين، 10 يوليو 2017

حكاية رجل عجوز (الجزء الأوّل)

,

آية دخيل /كاتبة ليبية

كان هرما وقبيحا، لكنّه كان يعيل بحب بناته السّتّ، اللواتي أنرن حياته وملأنها عليه بعد وفاة زوجته الّتي لم يعد إلى تذكّرها، وبهذا كان يحرس البوابة المغروسة أمام الشّركة المحلّية الّتي يعمل بها هو وبعض من جيران شارعه، لم يحب الوظيفة في بادئ الأمر، ذكرها له نسيبه الّذي ما إن لاحظ أن أوضاعه المادّية لا تشي بخير، قال له: البنات أمانة في عنقك، ومدخراتك كما هو واضح لم تعد تكفي، لقد سمعت من أصدقائي عن شركة جديدة تحتاج من توكل إليه مهمّة حراسة المبنى، إنها لا تبعد كثيرا عن هنا، وعندما شكى له صحته وشبابه الّذي انطفأ فجأة وأنّه لا يجد من الجهد إلا ما يتنفس ويمشي به، قال له، لا تهتم لا تهتم.. إنهم لا يولون للأمر أدنى اكتراث، باب على الكلاب، هل تفهمني؟ أن تواظب على العمل كل يوم، هذا فقط ما يهم، مستقبل البنات يا أخي، ماذا سيقول الناس.. أومأ برأسه وخفض عينيه ولم يدرِ ماذا يقول هو نفسه، في اليوم التّالي تأبط ملف حشر فيه شهادة الصّف السادس مع بعض الأوراق الثبوتية، لم ينهِ تعليمه، كان يجب عليه أن يشتغل مع والده في دكانهم، وهذا أيام زمان كان كافيا، أمّا الآن فهو لم يعد يفهم، تغيّر العالم، ولم يعد يجد مكانا فيه، ربّما لأجل هذا كان حريصا على أن تتلقى بناته تعليما كاملا، وكان على استعداد لأن يعمل حتى في أقصى الأقاص لأجل أن يضمن ويتأكّد من هذا.

دلف من البوابة الّتي لم يكن يدري في حينها أنّها ستكون ملجأه وسكناه للسّنوات العشر التّالية، وتقدمّ بخطى مترددة دون أن يمنع نفسه من مراقبة الإختلاف المخزي بين المبنى المرتّب، ومظهره الّذي عجن كيفما اتفق، ودارت الشّكوك والمخاوف في نفسه، ثمّ سمع صوتا يناديه، اقترب منه شاب خمّن أنّه في العشرينات، وطلب منه بصوت لم يكن ودودا جدّا أن يناوله الملف، تفحّص فيه قليلا ثم رماه في السّلة مع سجائره وكوب قهوته الفارغ معللا أن كليهما لا يحتاجانه، وانطلق يكمل بخطواته الممر، تبعه مثل كلب، حائرا أمام موقفه، هل يصفع هذا الصّعلوك ويتفل على وجهه كما صفعه الأخير حين ألقى به مع أوراقه في الزبالة، وهل يظنّ هذا المغرور المتذاكي أنّه متسوّل جاء يطلبه بعض الحاجة، إنّه قد كسب ماله دائما من عرق جبينه وجهده واجتهاده، لن يسمح لأي أحد أن يهينه بعد هذا العمر، وقطع عليه الموظّف حبل أفكاره، خليفة البوّاب هذا هو اسمك منذ اليوم، تفضّل المفتاح، وانصرفَ، تاركا إياه مع حجرة لا يعلم بعد ما فيها.. لم تكن الأيّام ولا السّنوات الّتي تلت مختلفة كثيرا، كان هو في حجرته الفقيرة لكل شيء، وهم في المبنى الغني عن كل شيء، تحاشوه بشكل مؤلم، بسبب شكله الكريه، لم ينظر في عينيه أحد، ولم يبادله التحية على مرّ الفترة الّتي انقضت أيّ من العاملين معه، كان أدنى مكانة من أن يلاحظ، وآلمه بشكل فظيع أن يعيش مع هذا الوجه الّذي لم يختره، حيث ينفر الجميع منه ويشيحون بأنظارهم عنه، لذا عندما كان يخلو إلى نفسه، كان يستذكر صورة بناته يطوقنه ويشعر بكلّ الحبّ عليه يغدقنه، بشكل مناقض لكل شخص أخر عداهن، ولأجل هذا احتمل واصطبر، وأنشأ على عمله يواظب ويشتغل.

كبرت بناته وكبر معهنّ وشاخ، وفيما كان يلحظ التّبدلات والتغيّرات تلف أجسادهنّ وأفكارهن، كان هو على حاله، لم يتغيّر فيه إلا وجهه الّذي زاد هزالا وبشاعة، على عكس قلبه الّذي أمسى أخفّ وأوسع، ولم يتوقّف رغم عمره الّذي تقدّم كثيرا عن الذّهاب لبوابته الّتي تسايره ويسايرها، ولم يتوّقف الآخرون عن تجاهله والنفور منه، وكان يغسل كلّ هذا بابتسامة هادئة، غير مكترث هو الآخر. وذات يوم، طرقت يد على باب غرفته العجوز، كان المدير، واعترت كلاهما الدّهشة، محدّقين في بعضهما البعض، دون أن يعرف أي منهما ماذا يقول، جلسا متقابلين، رمق المدير خليفة، معاينا مظهره القديم، بيديه المعروقتين، وكتفيه المتهدلين، ووجهه الّذي كان يشبه وجه حصان مسنّ، وذكّره خليفة بوالده المرحوم، وأحسّ بالذّنب لأنه جاء ليصرفه من عمله، فالشّركة قد عقدت صفقات جديدة، والمخزن امتلأ عن آخره مهددا بلصوص لا يكترثون للشياب والعجزة، إنها بالتالي تحتاج شابا ليقوم بمهمة خليفة، الّذي قام ليحضّر فنجان قهوة ضيافة للمدير الّذي لم يتخيّل أنّه قد يدوس عتبة داره يوما، مغتبطا في ذات نفسه، دون أن يدري أنّه على وشك أن يفقد وظيفته. قرقع الفنجان على الطاولة، وتصاعدت الرائحة تغزو الأنوف، علقت الكلمات بحلق المدير واغتمت أعماقه، فكيف يصرف موظفا اشتغل عنده لعشر سنوات دون أن يكل أو يملّ، ثمّ إنه في عمر والده، وأحسّ بالعار يجثم على صدره خانقا إياه،أمسك الفنجان بأصابع دقيقة، رشف، وانتفض بعدها قائلا: ياخليفة! إننا نريد تعيينك بوظيفة جديدة، ما رأيك؟ قهواجي.

التدوينة حكاية رجل عجوز (الجزء الأوّل) ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “حكاية رجل عجوز (الجزء الأوّل)”

إرسال تعليق