طرابلس اليوم

الجمعة، 28 أبريل 2017

الخطاب الديني والسلم الأهلي

,

شكري الحاسي/ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مازلنا نؤكد على هذه الحقيقة المؤلمة؛ كون الخطاب الديني سبب رئيس في دمار النسيج الاجتماعي، وفساد السلم الأهلي في كثير من المجتمعات اليوم. ولعل الجهل بالواقع، أو تجاهله أدى إلى انحراف الخطاب، والذي بدوره صنع مجتمعات كرتونية هشة تهاوت بمجرد ارتفاع القيود السلطوية عليها.

 

إن طبيعة الإسلام كدين خاتم، ورسالة عامة إلى شعوب، وأممٍ متباينة، ومختلفة، وعصور ، ودهور لكلٍ خصوصيته، وعاداته، وتقاليده؛ تحتاج إلى منهج محكم يستطيع أن يتواءم مع المحكمات، والمتشابهات، أو مانسميه الثوابت، والمتغيرات؛ فالثوابت لا تتغير بأحوال الزمان، ولا المكان، ولا العادات، ولا التقاليد.مثل ثوابت العقيدة؛ كوحدانية الله-تعالى-واستحقاقه للعبادة، والخضوع، وكذلك ثوابت العبادات؛ مثل أركان الإسلام الخمسة، وثوابت الأخلاق، وثوابت المعاملات؛ فلن يأتي زمان على الناس مثلاً؛ يكون فيه الإله الواحد أصبح متعدداً، أو الصدق أصبح رذيلة. والمتغيرات هي التي لا بد أن يكون الواقع فيها حاضراً بجميع تركيباته العضوية، والمعنوية.

 

هذا بغض النضر عن رؤية الفقيه، والعالم، وأصوله التي استنبط بها، ومن خلالها الأحكام الجزئية التفصيلية المبنية على الاجتهاد، والتأمل. ونستطيع أن نقول أن النص الشرعي وحده لا يعمل إلا أن يتمثّل رجلاً، ويصبح واقعاً، وبيئة، وخليطاً مع طبيعة الجو، والتراب، والحرارة، والبرودة، والواقع الاقتصادي، السياسي، والاجتماعي. (كل هذه الخلطة) هي التي تصنع الفتوى، والحكم الشرعي في حق المكلف؛ ولهذا كانت الفتاوى، والأحكام المستورة، والتي لم تُصنع داخلياً لأي مجتمع؛ كانت وبالاً عليه إذا لم يؤخذ في ذلك اعتبار الواقع. وعليه قال الإمام ابن القيم: فقه في أحكام الحوادث الكلية،  وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطى الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع. ويقول أيضاً:  لا يجوز للمفتي إطلاق الفتوى في مسألة فيها تفصيل،  ويقول أيضاً: فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد. ويشترط في المفتي أن لا يعيش في برج عاجي  بعيداً عن الناس، ولا يعلم أحوالهم.

 

إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش، ولا يُفهم في فراغ ! لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم, ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم; إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي.

 

وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة ; كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي ; وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية .

 

والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة , دون إدراك لهاتين الحقيقتين، ودون مراجعة للظروف، والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص، ونشأت فيها تلك الأحكا  ودون استحضار لطبيعة الجو، والبيئة ،والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها، وتوجهها ; وكانت تلك الأحكام تُصاغ فيها وتحكمها، وتعيش فيها . . الذين يفعلون ذلك ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ ; وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ . .

 

هؤلاء ليسوا “فقهاء”! وليس لهم “فقه” بطبيعة الفقه ! وبطبيعة هذا الدين أصلاً !   إن فقه الحركة ” يختلف إختلافاً أساسياً عن “فقه الأوراق” مع استمداده أصلاً وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها “فقه الأوراق” !

 

إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره “الواقع” الذي نزلت فيه النصوص , وصيغت فيه الأحكام.  ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركباً لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته , واختل تركيبه!

 

ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته , يعيش في فراغ, لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها . . إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ .

 

ونختم بفتوى كان لها الأثر الكبير في فساد السلم الأهلي؛ حينما سُئل أحدهم عن الصلاة خلف من يُجّوِز دُعاء الأموات.؟

فقال:  فالذي يبيح أن يُدعى الميت ، وأن يطلب منه المدد يعتبر مشركاً ، ولا يصلى خلفه، ولا خلف من يعمل عمله، ولا خلف من يرضى عمله أيضاً ، بل هذا من الشرك الأكبر، ومن عمل الجاهلية، من مثل عمل أبي جهل، وغيره من المشركين. فلا يصلى عليه، ولا يصلى خلفه، ولا يتخذ صاحباً بل يبغض في الله،  ويعادى في الله سبحانه، وتعالى، ولكن ينصح، ويوجه ويعلم لعل الله أن يهديه . فهذا ليس بمسلم ؛ هذا مشركٌ؛ لأن دعاء الأموات، والاستغاثة بهم ، والنذر لهم ، من أنواع الكفر الأكبر؛ فلا يجوز أن يُتخذ إماماً ، ولا يُصلى خلفه، وإذا لم يجد المسلمون مسجداً آخر؛ صلوا قبله، أو بعده، صلوا في المسجد الذي يصلي فيه إذا لم يكن فيه قبر، لكن قبله، أو بعده، فإن تيسر عزله، وجب عزله، وإن لم يتيسر؛ فإن المسلمين ينتظرون صلاة هؤلاء. ثم يصلون بعدهم، أو يتقدمونهم إذا دخل الوقت، ويصلون قبلهم إن أمكن ذلك، فإن لم يمكنهم؛ صلوا في بيوتهم.

هذا مع إنكارنا لما يُخل بنقاء التوحيد. ولكن أنظر كم فعلت هذه الفتاوى ببلادنا.

 

التدوينة الخطاب الديني والسلم الأهلي ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “الخطاب الديني والسلم الأهلي”

إرسال تعليق