طرابلس اليوم

الخميس، 28 يونيو 2018

التراث الإسلامي في معركته الجديدة

,

علي أبوزيد/ كاتب ليبي

في غمرة الأحداث المتلاحقة التي نعيشها والتي تشغلنا بتسارعها وتطورها، هناك عمل دؤوب ومستمر على إعادة صياغة الحالة الفكرية للأمة المسلمة ومحاولة تشكيلها بما يتلاءم مع النظام العالمي الذي يبدو أننا نشهد مرحلة تشكل جديدة تسعى لها الدول المتصارعة فيه على الهيمنة والنفوذ.

إن التغيرات الكبرى التي مرّت بها منطقتنا العربية منذ مطلع 2011 وامتدّ أثرها لكامل العالم الإسلامي كان لهاالأثر البالغ في مراجعة السياسات لدى كثير من أنظمة الدول العظمى، جعلها تبحث عن خطاب جديد وأسلوب مغاير للتعامل مع الشعوب المسلمة خاصة بعد الصعود السياسي اللافت للحركة الإسلامية الذي كان في بدايات الربيع العربي، وقد مثّل ظهور داعش في المنطقة فرصة ذهبية لاتخاذه منطلقاً لمحاربة فكرة النهضة الإسلامية بكاملها، فتمّ وضع جميع تيارات الحركة الإسلامية في بوتقة الإرهاب، وأعلنت الحرب السياسية والإعلامية وأحياناً كثيرة العسكرية على جميع أطيافها، وهو ما بتنا نلمس آثاره في واقعنا اليوم واضحاً جلياً في عودة اتساع رقعة الاستبداد وانحسار العمل الإسلامي بشكل عام.

إلا أن أخطر الأمور التي تتضمنها الحرب الموجهة ضد العمل الإسلامي اليوم، هي تلك الحملة الخبيثة والشرسة على المنظومة الفكرية للأمة، والتي تستهدف بشكل مباشر منابع فكره الزاخرة والمتمثلة في التراث الفكري والحضاري العظيم الذي تميزت به هذه الأمة عن غيرها من سائر الأمم.

والحقيقة أن محاربة الأمة فكرياً من خلال تشويه تراثها والتشكيك فيه ومحاولة إبعاد الناس عنه والتنفير منه ليس أمراً جديداً، فمعلوم أن حركة الاستشراق الذي برزت بعد حركة الإحياء العظيمة القائمة على بعث كتب التراث ونشرها التي شهدها العالم الإسلامي في بدايات القرن الثامن عشر كان لها –أي حركة الاستشراق- دور خطير في إخراج هذه الحركة عن مسارها وإفقادها هويتها الإسلامية الأصيلة وتضييعها في مناهج غريبة عن روح الإسلام وقيمه أفرز لنا القومية التي فتتنا، وها نحن اليوم نشهد حراكاً مماثلاً أشد خطورة وأكثر نشاطاً وأقوى فتكاً في أدواته وأساليبه يسعى لهدم المنظومة الفكرية للأمة بزعزعة الثقة في تراثها والتشكيك في ثوابتها.

ولا يعتقد أحد أن هذا الكلام ناتج عن سيطرة نظرية المؤامرة على عقولنا وأفكارنا، فإن الواقع يكذب ذلك ويستبعده، وإن ما نشهده اليوم من تعاون المناهضين للعمل الإسلامي في مختلف جوانبه من المنهزمين فكرياً والموبئين عقدياً مع أنظمة الاستبداد ورعاة الفساد في منطقتنا وتضافر جهود هؤلاء جميعاً مع الدعاية الغربية الناطقة بالعربية المتمثلة في القنوات والمنصات الإعلامية الغربية التي تتيح المجال لكل دعاية سيئة عن الإسلام هو الدليل الأكبر على تحالف هؤلاء ضد أي نهوض إسلامي مرتقب.

لقد أصبح التراث الإسلامي مادة دسمة لكثير من البرامج الحوارية والفكرية التي تعرض على الشاشات العربية والغربية الناطقة بالعربية، إضافة إلى المحتويات التي ملأت منصات التواصل الاجتماعي، وكلها موجه لنقد التراث الإسلامي وتاريخ المسلمين محاولين ربطه بالتطرف والإرهاب وساعين لترسيخ مفهوم مفاده: أن التراث الإسلامي هو مرجعية التطرف الديني عند كل المتشددين دينياً.

والراصد لهذا الخطاب المهاجم للتراث والمحاول أن ينسفه، يجد أنه يأتي تحت ذريعة البحث العلمي الحرّ ومحاولة خلق مشروع نهوض إسلامي من خلال قراءة علمية واعية ومعاصرة للتراث الإسلامي ومتحررة من قيود القداسة الوهمية ومذعنة لنتائج البحث المتجرد، ولا شك أن مثل هذه الشعارات البراقة التي تقدم في سياق المقابلة لمصطلحات التطرف والإرهاب والأصولية وتكفير المجتمعات ويتم التسويق لها بتوسع وكثافة ستجد آذاناً صاغية وستؤثر على المدى البعيد في وعي الأمة وفكرها.

إن خطورة هذه الحملة المستمرة على التراث ليس في اتخاذها هذه الشعارات الرنانة فحسب، بل في خبث المنهجية المتبعة في عرض التراث الإسلامي ونقده، والتي تبرز أهم عناصرها في: الانتقائية الخبيثة لبعض الاجتهادات غير الموفقة لبعض علماء المسلمين وتقديمها على أنها هي دين الإسلام، كذلك جعل المنطلقات الفكرية الغربية مسلمات منطقية تُقيّم بها أحكام الإسلام وشرائعه خاصة فيما يتعلق في جوانب الحريات العامة وحقوق الإنسان وقضية المرأة، وهذا تحكم باطل ورضوخ تام لهيمنة الفكر الغربي، أيضاًانتزاع كثير من الحوادث التاريخية والنصوص الشرعية والتراثية من سياقاتها وتوظيفها في سياقات أخرى بهدف إعطاء تصورات مغلوطة والتشكيك في الثوابت الإسلامية.

كما أن الفضاء الإعلامي المفتوح والمساحات الواسعة المتاحة لمثل هذا الخطاب وسهولة ترويجه عن طريق منصات التواصل الاجتماعي أمّن له سرعة انتشار كبيرة، وجعل القائمين على هذا المشروع التدميري يضربون ضربات قاسية وعنيفة في البناء الفكري للأمة، وإن كان طه حسين في مطلع القرن العشرين شكك في تراثنا الأدبي من خلال كتابه “في الشعر الجاهلي” واعتُبِر ذلك في وقته تمادياً كبيراً وقام كثير من رجال الأمة بالرد عليه وفي مقدمتهم حارس التراث المخلص العلامة محمود شاكر، فإننا في مطلع القرن الواحد العشرين بدأنا نشهد من يشكك في القرآن ويدعو إلى تعطيله بقراءة سخيفة ومتهافتة دعاها زوراً وبهتاناً “قراءة معاصرة”، ونجد من يشكك في كتب الأحاديث وينعتهابالأساطير والخرافات، كل هذا في غياب شبه تام للحراك الإسلامي في سبيل صدّ مثل هذه الحملات وردها، ولعل مرجع ذلك وسببه إلى انشغال كثير من المنخرطين بالعمل الإسلامي في ميدان السياسة، وتشاغل التيارات الإسلامية ببعضها، وعجزها عن تقديم خطاب أكثر معاصرةً يتجاوب مع الحراك الفكري العام ويكون قادراً على تقريب التراث الإسلامي من عموم الأمة، ويعيد بناء المنطلقات الفكرية للأمة بما يتوافق مع روح الإسلام وقيمه، بعد أن تشوهت هذه المنطلقات في وعي الأمة بما أصابها من الهيمنة الفكرية الغربية المؤثرة وغير المحسوسة، وهذا الأمر لن يكون سهلاً ولا متيسراً ما لم تتضافر الجهود مستعينةً بوسائل الانتشار لبلوغ هذه الغاية ونيلها بتحصين وعي الأمة وصيانة تراثها من الإفساد والتشويه.

التدوينة التراث الإسلامي في معركته الجديدة ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “التراث الإسلامي في معركته الجديدة”

إرسال تعليق