طرابلس اليوم

السبت، 23 يونيو 2018

السلفية وأزمة التبيئة

,

مصباح الورفلي/ كاتب ليبي

 مصطلح السلفية  بات مثار جدل ونزاع بين التيارات السلفية باختلافها في الوقت الراهن ،”الهوية وشرعية الانتساب لها” بعد تطوّر مدرستهاعبر التاريخ ومرورها بأطوار فكرية ومنهجية.

بالعودة إلى الجذور التاريخية  للمصطلح نجد وبحسب البحاثة الذين تدراسوا نشأة هذه المدرسة وتاريخها الممتد إلى القرون الأولى،فإن السلفية مرَّت في دورتها الزمنية  بأربع مراحل تاريخية  شكّلت وقولبت فيها المجتمعات سياسياً وأيدولوجياً،حيث بدأت مرحلتها الأولى مبكّراً  مع مدرسة  أهل الحديث الأوائل، ثم عادت بسطوتها في العصور الوسطى مع شيخ الاسلام المجدّد ابن تيمية، و جدّد روحها من جديد في العصر الحديث مع بداية القرن الثامن عشر الشيخ  محمد بن عبد الوهاب التميمي، لتمر السلفية بعده قرابة القرنين بمنعطف فكري و نهضوي ترافق مع  مايصطلح عليه بحركة النهضة واليقظة الفكرية أو مايعرف بحركة إحياء التيار السلفي في المشرق العربي ، لتستقر بعدها بصورتها النهائية المعاصرة بمختلف مشاربها إلى علمية نصيّة ظاهرية  “الجاهدية والجامية” بالاضافة إلى مايصطلح عليه بالسلفية الاجتهادية أو الاصلاحية التي لايزال امتدادها متمثلأً اليوم في الاسلام السياسي كما يصفهم البعض.

أطوار عدة مرت بها المدرسة السلفية فأثَّرت وتأثرت في مجملها بالأنماط المجتمعية وتمازجت في أحايين مع أنساقها عبر هذه السلسلة التاريخية الطويلة، بمعنى أنها أضحت مؤثرة في حركة الأحداث وتطوّراتها، وكان لها حضوراً بارزاً في كل المعادلات،هذا طبعاً بحسب المنسوب المعرفي والثقافي لتلك المجتمعات عبر تلك المراحل الزمنية.

 لذا تراءى لنا في هذه الأسطر الوجيزة أن نفحص ونشخّص قدرة هذا التأثير ومدى جدوته الحقيقية لمجتمعاتنا وهل هي ظاهرة معرفية صحية؟، أم أنها نتائج تدني المستوى المعرفي المختلط بالخرافة والأسطرة، تأنُّ منه مجتمعاتنا منذ قرون.

كان لزاماً علينا وعلى ذوي الاختصاص إنطلاقاً من البعد الابستمولوجي معرفة مدى تبيئة التيار السلفي المعاصر بالبيئات العربية والاسلامية المختلفة “مشارقة ومغاربة” بالشكل الطبيعي والصحيح ؟وقياس بعض نجاحاته ؟ ومشاخصة صورها المنسوخة عن تلكم التجارب السابقة ؟ طارحين هذه التساؤلات المعرفية  باحثة عن أجوبة،ساعيةً لمعاينة الواقع المعيش لهذا التيار،إلا أن هذا الأمر يحتاج لدراسة مستفيضة لا يسع المقال حصر مضامينها وخلاصة نتائجها .

  لنكن أكثر قرباً لواقعنا الليبي, وبعيداً عن التنقلات والقفز من حقل لحقل نحاول هنا حصر معاينتنا الحقلية على الحقل اللليبي ،مع الاشارة والاستدلال إن أمكن ببيئات أخرى تماثلت فيها التجربة وخصائصها واضعين أمام قارءنا جملة من التساؤلات؟؟؟؟ هل استطاع حقيقةً روّاد التيارالسلفي المعاصر في ليبيا التمازج والتكيّف مع واقع مجتمعه ؟ ومامدى تمازجه وتبيئته ؟ومامدى قبول بعض فئات وشرائح المجتمع بآراءه الفكرية والمنهجية وتفسيراته ؟تساؤلات تضعنا أمام نفق يخيّم عليه الظلمة والوحشة يبعث في النفس كثير من التجوّسات مجبرين للخوض أسباره عنوة، لعلنا نخرج بخلاصة قد تفضي إلى نتائج أكثر واقعية ومقاربة .

 للنطلق  محاولين الاجابة عن هذه التساؤلات بعيداًعن النزاع حول الهوية السلفية والانتساب لها الذي شغل معظم منتسبي هذه المدرسة سواء النصية أو الاجتهادية الاصلاحية،ارتأينا أن ننأى عن هذا الجدل ،وما يهمنا ومركز اهتمامنا في موضوع مقالنا هذا،هو قياس المسافة بين أفكار ومنهجية هذا التيار و أنساق البيئة المجتمعية التي نشأ فيه، ومعرفة محددات التفكير السلفي وبيئته وقياس القبول والرفض والظروف المحيطة بهما سواء السيكولوجية والثقافية.

  بوصلتنا تشير بسهمها نحو السلفية الظاهرية أو النصية،المثيرة للجدل في أواسط مجتمعتنا ونخبه التقليدية، فامتداد هذه الظاهرة من وجهة نظري الذي خلص بعد معايشة ومماحكة وتفاعل معها  لفترات متتالية عن قرب مطّلعاً على مواقفهم وطرق تفكيرهم وتعبيرهم عن معتقداتهم ،أن هذه الظاهرة وليدة بيئة متخلّفة تعليمياً وثقافياً،نتيجة ظروف سياسية وثقافية ومجتمعية أوجدتها سنوات الضيم والانغلاق لعقود جفَّفت خلالها المنابر العلمية المعتدلة ،وانفتحت فجأة على الآخر دون انضباط أو تقعيد معرفي أصيل ترتكز عليه ، فزادت من حدَّتها وانغلاقها على أيدولوجيتها المحدّدة الرافضة لآراء الآخر،مما جعلها منطوية على رؤيتها النقدية لأوضاع المجتمع المعيش متنكّرةً له ،دون أي مراعاة للواقع ومسجداته وتغيّر أنساقه، محاولة من وجهة نظر مشيختها الدفع بالمجتمع نحو الاصلاح الوهمي المفتقد للآليات الاصلاحية  المعاصرة التي تتماشى والنسق المجتمعي الآخاذ في التطّوّر، ساعين الخروج به من دائرة الخرافات والبدع كما يدّعون مسقطينه في بدع الطيعة والخنوع.

  واقعهم المعيش يدل بوضوح رفضهم لكل أشكال التضامن المجتمعي التقليدي التي تعارف الناس عليها هادمة للمذهبية والطرقية ،بما فيها السنيّة  صاحبة الموروث الزاخر في البلاد .

بهذه النظرة للمجتمع وموروثاته وضعت كل صور التضامن المجتمعي التقليدي سواء الظاهري منها في العادات والأعراف أو الجوهري، القيم والمبادئ في خانة المرفوض تماماً ،فضلاً عن الجفوة التي أحدثتها مع الوطنية التي تعد إحدى الصور هذا التضامن، بل أحد مرتكزاته،لأنها قياساً لعرفهم وأيدولوجيتهم، بدعة يجب محاربتها وإن لم تنطق ألسنتهم بها، إلا أن سلوكياتهم توحي بذلك صراحةً.

المتمعّن لطبيعة منهجهم الظاهري يرى بوضوح لبنات حواجزهم السميكة  أمام كل ما هو قائم ومتجذّر في مجتمعنا باعتباره يتناقض ومنطلقاتهم الفكرية والمنهجية المستوحاة  أصلاً من بيئات خارجية ،ولهذا نجد أبناء هذا التيار اليوم يرفض كل دعائم التقعيد الوطني سواء المعرفي والعرفي في الأفراح والأتراح والملبس أيضاً رجالاً ونساء،وكل أشكال التعاضد المجتمعي.

 من منظورهم الضيّق كل هذه العادات خرافة ومورث تشبّع باللوثات والشوائب ينبغي غربلتها أو تركها كلّيةً، وينبغي محاربتها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

حقيقة توجّه هذا التيار ينبىء عن أوجه التناقض بينه وبين مجتمعه الذي عان في فترات متلاحقة غربة معرفية عن إرثه الزاخر بالعلوم، بالاضافة إلى خلط بعضه بشوائب الابتداع والخرافة، ولكن لا يعني هذا أننا نرفضه جملة وتفصلاً ونتلبَّس ونقتمّص لساناً وحالاً بأعراف وتقاليد غيرنا بحجة مقاربتها للنهج القويم كما يدعي منتسبو التيار السلفي، فعرفنا وتقاليدنا أصولها نابعةً من صفاء الدين ومن أنقى مذاهب أهل السنة  وأقواها، المذهب المالكي ومدرسته المغاربية التي تعد أجودها وأثراها من بين مدارسه”العراقية والحجازية والمصرية” فإلصاق بعض الخرافات والبدع ببعض موريثنا يحتاج منا التصحيح والتنقيح وفق منطلقاتنا، وضمن أطر بيئتنا المغاربية والليبية، لا التنصّل منه وتجاوزه.

بيئتنا المغاربية عموماً ليست مفتقرة من الفقهاء والدعاة والمصلحون بل إنها أفرزت منارات تجديدية متنوّرة في علم المقاصد كعلاّل الفاسي والطاهر بن عاشور وصولاً إلى الريسوني،أعلام نبغت من بيئتنا المغاربية التي نحن الليبيون جزء منها وأحد امتداداتها كما للخليج العربي والشوام بيئتهم الخاصة والمتقاربة عرفاً وديناً.

 ما ألحظه ويلحظه غير على هذا التيار في السنوات الاخيرة بعد التجاوزات على كافة الصعد سياسياً ودينياً ومجتمعياً هو ظهور بوادر الأنشقاق مجتمعياً مع هذا التيار الذي أخذ في التصدام المباشر مع الموروث.

مظاهر الرفض بدأت تأخذ منحى تصاعدي بعدما انخفضت وتيرته خوفاً من التغييب والاقصاء القسري،وهذه دلالة واضحة على عدم نجاح هذا التيار في تبيئته مع واقعه ومجتمعه ليعود بنا إلى مابدأناه في مقالنا من تساؤلات التي لا تحتاج لإى إيضاحات ، فالواقع المعيش يدّعم ما أشرنا إليه.

التدوينة السلفية وأزمة التبيئة ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “السلفية وأزمة التبيئة”

إرسال تعليق