طرابلس اليوم

الثلاثاء، 19 يونيو 2018

زحزحة القيم الاجتماعية

,

عبد الفتاح الشلوي/ عضو المؤتمر الوطني العام السابق

في الماضي القريب كان المجتمع الليبي يتمتع بخاصية قوة ترابطه الاجتماعي، وكانت قوة تلك العلاقات التي لم تحُل مساحة الوطن الشاسعة دون فاعليتها وتداخلها، حتى وإن وصفها البعض بأنها قارة تمتد من أقصى جبال تيبيستي بالجنوب وحتى شواطئ المتوسط بالشمال، ومن الحدود المصرية بالشرق وحتى الحدود التونسية بالغرب، ورغم التباين بعض الشئ باللهجات المحلية، واختلاف بعض العادات والتقاليد إلا أنه يظل مجتمعًا واحدًا موحدًا متماسكًا مترابطًا.

امتاز الليبيون بكرم الضيافة، والمروءة وبساطة العيش في صدر الدولة الليبية بعد نيل استقلالها من هيئة الأمم المتحدة، الأمر الذي سهل لهم بناء الدولة، ولم تثنهم النزاعات والحروب القبلية على موارد الكلأ والماء، وترسيم مناطق نفوذ تلك القبائل، على تحقيق تلك الأهداف، صحيح أن العامل القبلي لعب دورًا مهمًا في التعاطي مع الجانب السياسي زمن المملكة الليبية، لأجل خلق توازن قبلي في أبسط صوره وهو أمر محمود مرعاةً لعملية التدرج بالانتقال من المجتمع القبلي للمجتمع المدني في مراحله الأولى .

ولم تجد سلطة سبتمر بدًا من المحافظة على هذا النهج، بعد إعلان قيام سلطة الشعب 1977م، بل إنها كرسته في إطار توظيفه لغايات أبعد من عملية الانتقال التي تحدثنا عنها، لتكب بكفة استقرار السلطة، وتفكيك العصبة المجتمعية، واحداث الشقاق بينها .

وعندما قامت ثورة السابع عشر من فبراير 2011م، لم يكن لتلك السياسة أي نتائج سلبية على الثورة والثوار، وكان التدافع القتالي بين أنصار سلطة سبتمبر والمناوئين لها في إطار الانتماء السياسي من عدمه لتلك السلطة، فقد تجد الأسرة الواحدة منقسمة بين مؤيد ومعارض، وكذلك القبيلة، ومنها المدينة والقرية، وبرزت بعض الصور التي تؤيد ما أسلفت بسابق هذه الأسطر، فقد تقاسم الليبيون رغيف الخبز وقنينة الماء والبنزين، والأهم من كل ذلك تقاسمهم الدماء على خريطة الوطن، فقد صعدت الأرواح في غير مدنها وقراها، لأجل تحقيق غايات وأهداف سامية رفعت شعاراتها بأشهر الثورة الأول الى أن سقطت السلطة ورأسها .

وما أن بدأ الصراع السياسي المبكر حتى ظهرت مكنونات يدسها البعض في صدورهم، واستنطق البعض النعرات التاريخية، و”ميكن” أخر لعامل الجغرافيا، وكيّر ثالث بالنفخ في مسألة التنوع الثقافي، وبذا نسفت ما كنا نفتخر به ونتفاخر من عناقيد دررنا المجتمعية، وتباهينا بمدى تمسكنا بها، فقد شبت الشقاقات بربوع الوطن، وصار الصراع يظهر الوطن ككرتونات فسيفيسائية مبعثرة، وعلت الأصوات التي تطالب بالتقسيم والتفكيك بهذه الصورة أو تلك، وكان لصفحات التواصل الاجتماعي الدور الأكبر للترويج لهذه الدعوات، قَبِلها من قَبِلْ، ورفضها من رفض، وتحفظ عليها من تحفظ، فهيأت الطريق للآيادي الخارجية للنفخ بالصراع الليبي الداخلي وتدويله، وإيجاد موطئ قدم لهذه الدولة أو تلك .

وبعيدًا عن المآلات السياسية وديموميتها فقد صبت تلك الصراعات بكفة هدم قيمنا الاجتماعية، وبتلك الخصائص التي كنا نعدها ميراثًا ذهبيًا تركه لنا الأجداد، فقظ زال الحاجز الأخلاقي بين السُلم العمري، فلم يعد الشيخ موقرًا أمام فتىً حمل البندقية بثورة فبراير، أو امتشقها بعد سقوط سلطة سبتمبر، وانخرط بقوائم أشباه الثوار، لقد أضحى العنف اللفظي سلوكًا غير مشين ولا مرفوض خاصة بشبكات التواصل الاجتماعي من خلال  عالمهم الافتراضي، ومنه إلي عالمهم الواقعي، تأخر كثير من المشائخ والحكماء وأخذوا خطوة للخلف، خوفًا أو حياءً مم يجري، وتصدر المشهد بعض النفعيين المتحولين، في ظل سياسية لكل مقام مقال، ولكل فصل رداء، لقد شكل “المكيفلليون” لوبي سياسي قميئ ساهم مساهمة كبيرة في تفتيت الوطن والمجتمع، كيف وقد جاب البعض عواصم الخليج العربي بل والفارسي ورجعوا بأظرف بها من “اليورو والدولار” ما أخرس البعض منهم، ولجمهم عن قول الحقيقة، والتصدي للعبث الدولي بمصير الوطن، صحيح أن هناك استثناءات، لكنها لا تعني شيئًا أمام تداعيات وطن اسمه ليبيا، ومعاناة الشعب الليبي، لقد ركنوا لفرق العملة بالسوق الموازي، ولعطايا وهبات الساسة والعسكر، فكان للغريب ما يريد، وكتبت عليهم الذلة والعار، لهذا الموقف المخزي،

لم يكن مألوفًا بمجتمعنا إهانة المرأة، وكان لها اعتبار مجتمعي وقدر محفوظ، فإكرامها واجب وإن كانت الجيوب خالية، وكانت تحول بين القبائل المتحاربة بمجرد رمي غطاء رأسها بين المتقاتلين، فتكون السيوف بأغمادها، مالذي حدث اليوم؟ وهى تهان من بعض الغوغائيون، يُنهر الشيخ، ويُقتل الأطفال ويُذبْحون لأجل فدية أو تحقيق غاية، الجار يعتدي على جاره، يحرق بيته، ويغتصبه، والبعض يتخذ به محرابًا، يشى به للسلطة، حقيقة أو مكيدة، يُهجِر الصديق صديقه لأدنى أسباب الاختلافات السياسية، يغنم ممتلكاته، يتشفى بمأساته، ينكل بالأسير، ويقتل العزل، ويُغيب الأبرياء .

لم يعد مجتمعنا ذلك المجتمع النخوي، الذي كان يتسابق أفراده على إكرام أسرة تعطلت سيارتها على الطريق العام، وفقد كثير من مداميك بنيته الأخلاقية، يموت الجار من الجوع وجاره متخم بَدِين، يُسطى على بيته، والآخر شامتًا متشمتًا، يُسلب أثاث البيوت، ويباع بالساحات المتربة، على مسمع ومرأى العقلاء وفي بعض الأحيان تحت حراب  السلطة المفترضة، جدران شوارعنا تكسوها العبارات السوقية الهابطة، يظهر على شاشات قنواتنا الفضائية “متقروطون” يسبق أسماءهم وصفاتهم أحرف “الدكترة” والأستاذية فيلقموننا بعبارات السوء من القول، مذيعون ومقدمو برامج كذلك، وينضب المداد ولا يتوقف القلم عن الحزن والحرج مم نرى ونسمع، ومم افتقدنا من قيم الاباء والأجداد، فهل هى ضريبة انهيار السلطة؟  أم أنها مصاحبة للحدث وستزول بزوال اهتزازاته؟ وأخشى ما نخشاه أن تكون عملية زحزحة أخلاقية وقيمية ؟

التدوينة زحزحة القيم الاجتماعية ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “زحزحة القيم الاجتماعية”

إرسال تعليق