طرابلس اليوم

الأحد، 20 مايو 2018

ما أريكم إلا ما أرى

,

أبوبكر بلال/ كاتب ليبي

أحادية الرأي لم تكن طريقة سيئة مورس بها الحكم كما لم تكن سمة بارزة عرفت بها أنظمة استبدادية قمعية فقط، بل تحول إلى وباء ترسخ في المجتمع حتى طال أولي العلم والشهادات العليا وساهم في انتشاره نخبة لا بأس بها من فقهاء وأكاديميين وقضاة.

ما زلت أذكر كيف طالب أكاديمي وخطيب في اجتماع للأوقاف المسيرة من قبل أعضاء اللجان الثورية ممثلي النظام الأوحد بداية الألفينيات بالعودة إلى ما أسماه الوحدة في شعائر الصلاة من سنن ومندوبات لم يتفق على طريقة ثابتة لكيفيتها حتى في زمن المصطفى عليه الصﻻة والسﻻم قائﻻ: متى تكون طريقة سﻻمنا واحدة؟ ويقصد بذلك سﻻما واحدا على اليمين، ومتى يكون التشريع في تكبيرة الإحرام وما سواها طريقته واحدة لا خلاف فيها؟ وأخذ يرتب كل أفعال الصلاة مطالبا بأن تكون طريقة تأديتها متماثلة لا يشوبها أي اختلاف بين مصلي أهل البلد؛ يقول ذلك دون أي استذكار لمحاولات مشابهة سابقة ذهبت أدراج الرياح نتيجة معاندة سنة الاختلاف الكونية التي أقرها الإسلام الحنيف لا سيما حادثة الإمام مالك نفسه مع الخليفة أبي جعفر المنصور حينما طب منه حمل الناس على كتاب واحد في الفقه يلتزمون به فلا يخالفونه حيث رد عليه مالك طلبه هذا بقوله: إن صحابة رسول الله ـ صحابة الله علي وسلم ـ اختلفوا في الفروع وتفرقوا في الأمصار وعمل كل قوم بما بلغهم.

وما زلت أذكر ذلك المحفظ القارئ الذي نادى بإلغاء أي رواية أخرى عدا رواية الإمام عيسى ( قالون ) متحججا بأنها رواية أهل البلد متخوفا من اندثارها نتيجة زحف رواية الإمام ( حفص ) التي يقرأ بها في غالبية أرجاء الوطن الإسﻻمي وتشرف على انتشارها حكومة آل سعود، ولم تخفَ في نبرة ذلك المحفظ توجه سياسي يمثل النظام في ذلك الوقت المتخاصم مع حكومة السعودية عﻻوة على انعكاس وباء الرأي الأوحد في كﻻمه.

هذه الشريحة من الناس كان من الواجب عليها أن ترسخ لثقافة التنوع وسنة الاختﻻف التي نص عليها القرآن الكريم وأقرها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – لما شوهد يؤدي سنة بكيفية تختلف عن الكيفية الأخرى، ولما سمع وهو يقرأ اﻵية برواية ثم يقرؤها برواية أخرى ويقرئ كليهما وغيرهما للصحابة – رضوان الله عليهم جميعا -، والتي لولاها لما وضعت مذاهب الأئمة ثم عرف كل مذهب برواياته المتعددة التي نقلها عن أئمتها تلاميذ ومريدون، والتي أقرها الإمام مالك نفسه وهو الذي يتبعه هؤلاء ويدعون اقتفاء أثره في قصته مع أبي جعفر المنصور التي سبق ذكرها.

لكن لما طغا الطاغون وحكموا بالحديد والنار وجلبوا نظريات دخيلة تتقاطع مع نظام الإسﻻم الحنيف طبقوها على مجتمعاتهم رأينا من من النخبة وأئمة المجتمعات من لبس جبة النظريات وأدخلها في تخصصه محققا هدف الأنظمة إما بجهل أو مصلحة أو خوفا من سطوة الأنظمة وجبروتها، ضاربا بسبيل من ادعى تبعيته في تعاطيه مع سنة الاختلاف عرض الحائط سالكا سبيل رؤية المستبدين في نظرتهم للاختلاف.

لذلك ﻻ نستغرب الآن هذا الوباء المتفشي الذي طال من يؤطرون ضمن إطار النخبة حتى رأينا مصادمتهم لسنن كونية دلت عليها أدلة نقلية وعقلية ساهمت بشكل أو بآخر في عتو الأنظمة وعظم بنيانها والتي بدورها ظلمت وأرهبت وأزهقت أرواحا وجهلت مجتمعاتها حتى أصبحت متخلفة جاهلة، ولا يزال جزء من هذه الشريحة يفعل الشيء ذاته إما لتثبيت طغيان أو دعم وتشجيع طغيان آخر لم يكتمل بنيانه.

التدوينة ما أريكم إلا ما أرى ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “ما أريكم إلا ما أرى”

إرسال تعليق