طرابلس اليوم

السبت، 14 يوليو 2018

دولة القانون أم دولة عمرو بن كلثوم

,

عبدالفتاح الشلوي/ عضو المؤتمر الوطني العام السابق

ونشرب إن وردنا الماء صفوًا . .  ويشربُ غيرنا كدرًا وطينًا . .  إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌ . . تخر له الجابرُ ساجدين

 

تلك الرؤية كانت بالعصر الجاهلي، تُجسدها أبياتٌ من معلقة الشاعر عمرو بن كلثوم، والشاعر لزمانه هو “ميديا” تلك الأيام، وهو المذياع، و”التلفاز” والصحافة الورقية، هو الناطق الرسمي باسم القوم، “غوبلز” بني قومه، وهيكل السلاطين والعروش .

 

لم يكن ذلك الصلف وتلك العنجهية مرفوضة حينها، بل يطربُ لها بجغرافيا الرمال الساخنة، وبأرضِ العشب والمياه، كانت الكلمة للقوي، والسيطرة لمن تُلهب سياطه جلود الضعفاء، ولا عرش إلا لأنغام الصليل، ونزوغ الرماح، من لا طبول له لا حياة له، ولا تُسمع له كلمة، ولا يسقي حتى يُصدر الرعاة  .

 

ومن بين تلك الفوقية والفوضوية سادت بعض القيم، وشئ من الخُلق الكريم، صنعتها قسوة الطبيعة بجانبها المضئ، وميراث كسبه جيلٌ من بعد جيل، وجوارهم العجم وهيمنتهم، فكانت ذات يوم معركة ذي قارٍ، أول وحدة بتاريخ العرب، ولم الشتات، وأول نصر يحققونه في ظل تناحرهم القبلي، فكانوا يتفاخرون ويتباهون بتلك المعركة التي خلقت وضعًا سياسيًا جديدًا، وحركت طبقات “جيولوجيا” تركيبتهم الاجتماعية، وأحدثت وميضًا بالمكان والزمان، ولعلها كانت لبنةً من لبناته، أو قُل مدماكًا من مداميكه .

 

وهذا الأعشى شاعر زمانه جسد معركة ذي قار وهزيمة أمبراطورية فارس بقصيدته التي يقول فيها .

 

لو أن كل معدٍ كان شاركنا . . . في يوم ذي قارٍ ما أخطاهم الشرف

وهذا يعني أن هناك من تخلى لهذا السبب أو ذاك، لكن الشاعر يعود ويُذكّر بفضائل كانت لصيقة بسرابيلهم، وتسري بدمائهم، وتتجدد كلما أتى عليها البهتان فيقول .

إن الأعز أبانا كان قال لنا :

 

أُوصيكم بثلاثٍ إنني تلفٌ . . . الضيف أُوصيكم بالضيف إن له . . . حقًا علي فأعطيه واعترف . . . والجار أُوصيكم بالجار إن له . . . يومًا من الدهر يثنيه فينصرف . . . وقاتلوا القوم إن القتل مكرمة . . . إذا تلوى بكف المعصم العرف .

 

بعض المتناقضات بين صدر المقالة ووصايا الأعز، فالغلبة للقوي، والشهامة والمرؤة ميراث بالفريضة، وإن كان للجهل “كودًا” فأبا الحكم عمر بن هشام عنوان، وما هو بالجاهل وهو الجاهل، الذي لم تتناثر فضائله يوم أن رفض ترويع بنات محمد، عليه الصلاة والسلام، ذلك عصر حمل طيفًا من الضديات، لكنه تماهى مع ذلك الزمان، ووقر ألياته، ووقف عند أدبياته .

 

لكن ماذا عنا اليوم ؟ كمجتمع غاص بمتناقضات أمس أبا الحكم، ويوميات “مارك زوكربغ” و “بيل غيتس” و “ستيف جوبس” هؤلاء الذين هدموا البرزخ الفاصل بين حياة البداوة وحياة المدنية الحضرية، فليس بالإمكان وصف من يعيش بالأرض غير العشرية بالبداوة وهو يتعامل بمكتسبات ثورة تقنية المعلومات، لكن لنا أن نصف

من يعيش بنطحات سحاب “نيويورك” وبمكتسبات ثورة تقنية المعلومات  بذات الفكر المتغلق الضيق وهو يعشعش “بدمنقله” متصلبات الماضي، ولذلك يبرز لنا التساؤل عن وصف اسلوب الحياة هنا، هل هو وصف مطلق جامد غير قابل للتحول أم سلوك وطبيعة معيشة ؟ تلكما البداوة والحضارة، فهل كل منهما مرتبطة بالقرية والمدينة ؟ أم أن تحليلًا أخر يغاير هذا الطرح وينسفه .

 

طبيعي أن ذلك من المغلوط من القول، وكيف لا يكون والعالم قد تحول لقرية وانصهر فيها بكيانته الإقتصادية، وامتزج عبرها بحالة الاحدود، فكل شئ متاح للجميع من خلال محمول اليد الذي لا يتجاوز وزنه الربع “كلغم” ومنه ما يختفي بقبضة اليد، ومع ذلك يصل الصين بالولايات المتحدة الأمريكية وفي ذات الوقت بجنوب أفريقيا، انعدم هنا التقوقع إلا لمن ارتضاه لنفسه، وانتهت حالة الجمود أمام ذلك لكل من أراد أن يحلق بفضاء العالم الرحب، فلم تعد القرية قرية، ولا المدينة مدينة أمام هذا التسارع الحضاري.

 

في ليبيا ما لم نتخلص من هذه الرؤى القزمية التي توفر الملاذ الآمن لكل متصعلك انتهازي نفعي، يستظل بمطالب لا تبني وطنًا، ولا تصنع أرضية لنمو جيل جديد يؤمن بأن لا وطن إلا ببناء الوطن، وأن القبيلة هى أشبه بالخلية في جسم الإنسان دورها مهم بأطرٍ محددة، ولا يمكن الاستغناء عنها، لكن إذا ما تضخمت وتعدت مهمتها التي خُلقت لأجلها تتحول بصمت مرعب لخلية سرطانية قاتلة.

 

إن خلق مفاهيم توعوية جديدة أمر في غاية الأهمية، تسبق العمران الشاهق، والطرق المعبدة فسفوريًا، والمستشفيات التي تُبرئ حيطانها وأجهزتها، حتى وإن شيدنا ذلك وكل ما هو عُجاب، لن يكون ذا فائدة، ما لم نهدم تكلس السالب من الماضي، وأن نواجه ذلك بشجاعة على مقاعد الدراسة، وبالمساجد، وحلقات النقاش، وبالبيوت خاصة .

 

لن تكون شجاعتنا إلا من خلال التشخيص الدقيق للواقع، وأن ننزع الشاش الأبيض المعقم من فوق جراحنا المتقرحة، وألا نربط عصا الدولاب بفئة معينة من مجتمعنا، ولا منطقة بعينها، فمعركتنا السياسية كشفت لنا واقعًا مؤلمًا ومريرًا، فقد انزلق لتلك المهاوي، مستويات علمية وثقافية وفنية عليا، مع توقفنا عند الاستثناءات التي حاولت نفض وحل المنزلق الذي قارب ملامستها، ليبيا تحتاج لجهود جميع الليبيين، وأن تكون الجغرافيا حاضرة، وأن يُسقط عِلية القوم من ذاكرتهم مفاهيم وتصورات ليس لها من مكان إلا متاحف التاريخ الإنساني وكذلك التاريخ الطبيعي .

التدوينة دولة القانون أم دولة عمرو بن كلثوم ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “دولة القانون أم دولة عمرو بن كلثوم”

إرسال تعليق