طرابلس اليوم

الخميس، 28 سبتمبر 2017

المشاركة في العمل السياسي

,

شكري الحاسي/ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

إن سمو الشريعة وكمالها وعلوها وصمودها في وجه الأعاصير والعواصف التي تضرب بكل قوة في صرح الشريعة ومنبعها وومصادرها الأصيلة منذ بزوغها وظهورها على مسرح الأحداث .   فظهرت  دعوات تتعالى هنا وهناك للقد في سلامة منهجها وحقيقة صلاحها وديموميتها وحيويتها وأنها عاجزة عن مواكبة كل جديد وحديث .

وفي المقابل الطرف المغالي التكفيري الذي يجرم المشاركة ويجعلها ردة وخروجاً عن  الإسلام .  وجهلوا  أنَّ في الشريعة أصولاً كلية تندرج تحتها مسائل جزئية كثيرة منها ؛  فتح باب الاجتهاد في تنزيل القواعد الأصولية على وقائع الناس ، ومتغيرات الحياة من فقه المصالح والمفاسد ، والاستحسان ، وسد الذرائع وفتحها وغيرها من الأصول .

وكذلك فقه الموازنات ، وعلو كعبه حينما تتزاحم الكليات ، والجزئيات ، والأصول والفروع ، والعام والخاص ، والظني والقطعي فتكون الموازنة والترجيح بين الصالح والأصلح ، والمهم والأهم .

ففتحت الباب واسعاً في مضمار السياسة الشرعية خاصة ، والتي تكون الحاجة إليها ملحة ؛ كلما ابتعد الزمان عن النبوة وآثارها . وهذا ما أكده العلامة ابن تيمية – رحمه الله –  فقال : وَهَذَا بَابُ التَّعَارُضِ بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا لَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَقَصَتْ فِيهَا آثَارُ النُّبُوَّةِ ، وَخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ تَكْثُرُ فِيهَا ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ النَّقْصُ؛ ازْدَادَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ ، وَوُجُودُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَطَتْ الْحَسَنَاتُ بِالسَّيِّئَاتِ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ ، وَالتَّلَازُمُ فَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَسَنَاتِ فَيُرَجِّحُونَ هَذَا الْجَانِبَ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ سَيِّئَاتٍ عَظِيمَةً ، وَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى السَّيِّئَاتِ فَيُرَجِّحُونَ الْجَانِبَ الْآخَرَ ، وَإِنْ تَرَكَ حَسَنَاتٍ عَظِيمَةً ، والمتوسطون الَّذِينَ يَنْظُرُونَ الْأَمْرَيْنِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ ، أَوْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُعِينُهُمْ الْعَمَلَ بِالْحَسَنَاتِ وَتَرْكَ السَّيِّئَاتِ ؛ لِكَوْنِ الْأَهْوَاءِ قَارَنَتْ الْآرَاءَ . الفتاوى  .20/58.

إن هذا الكلام النفيس لرجل عاش في القرن السابع ؛ لهو خير دليل على خيبة نعانيها اليوم في عمائم تعيش القرن الواحد والعشرين بعقولٍ بدوية متخلفة ؛  كأنَّها تحاكي الديناصورات المنقرضة منذ آلاف السنين .!!؟

إنَّ عقلية ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم تجعلنا نفكر ملياً في إعادة تكوين العقلية العلمية الدينية الشرعية ؛ في نظرتها للنص الشرعي ، والواقع المُعاش الذي تتنزل وتختلط وتمتزج فيه النصوص مع الواقع ؛ حتى يصنع فقهاً معاصراً  يعيش العصر ، ويتصل بالعصر .

وهكذا كانت المشاركة في الحكم ، والمجالس النيابية ، التشريعية . التي أصَّل لها ابن تيمية بناءً على قصة يوسف عليه السلام . فيقول : وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوَلِّي يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِمَلِكِ مِصْرَ بَلْ وَمَسْأَلَتُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَكَانَ هُوَ وَقَوْمُهُ كُفَّارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :  وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ  وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ : يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ   مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ  وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ كُفْرِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَادَةٌ وَسُنَّةٌ فِي قَبْضِ الْأَمْوَالِ وَصَرْفِهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَجُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ وَلَا تَكُونُ تِلْكَ جَارِيَةً عَلَى سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدْلِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يُرِيدُ وَهُوَ مَا يَرَاهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَكِنْ فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَنَالَ بِالسُّلْطَانِ مِنْ إكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ . فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ تَارِكَ وَاجِبٍ فِي

الْحَقِيقَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ . الفتاوى 20/58.

وفي حديثه رحمه الله عن النجاشي مع كونه حاكماً للنصارى وبقانونهم  وكان بإمكانه أنَّ يستقيل من ذلك إلا أنَّه فعل الممكن من العدل ، بل له الدور العظيم في حماية المهاجرين من الصحابة بفضل وجوده في الملك قال :  وَكَذَلِكَ النَّجَاشِيُّ هُوَ وَإِنْ كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى فِلْم يُطِعْهُ قَوْمُهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، بَلْ إنَّمَا دَخَلَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ …. وَكَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ أَكْثَرِهَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِيهَا لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهَاجِرْ ، وَلَمْ يُجَاهِدْ ، وَلَا حَجَّ الْبَيْتَ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَلَا يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ ، وَلَا يُؤَدِّ الزَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَظْهَرُ عِنْدَ قَوْمِهِ فَيُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ ،وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ مُخَالَفَتَهُمْ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ…. . وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالتَّتَارِ قَاضِيًا بَلْ ، وَإِمَامًا وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنْ الْعَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بَلْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا … فَالنَّجَاشِيُّ ، وَأَمْثَالُهُ سُعَدَاءُ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْتَزِمُوا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْتِزَامِهِ ؛ بَلْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ الْحُكْمُ بِهَا . الفتاوى 19/ 219.

وهذا ماأكده تلميذه ابن القيم  فقال :  والغالب أنَّه لا يوجد الكامل في ذلك فيجب تحري خير الخيرين ، ودفع شر الشرين ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بانتصار الروم ، والنصارى على المجوس عباد النار لأنَّ النصارى أقرب إليهم من أولئك ، وكان يوسف الصديق عليه السلام نائبا لفرعون مصر ، وهو وقومه مشركون وفعل من الخير ، والعدل ما قدر عليه ، ودعا إلى الإيمان بحسب الإمكان . الطرق الحكمية.1/347. الشاملة .

وهذا ما أكده جمع من المفسرين : الشوكاني ، والبيضاوي ، وابن جزيء ، والنسفي ،  والزمخشري ، وغيرهم . عند قوله تعالى :  اجعلني على خزائن الأرض . يوسف ،

فالشريعة فيها من المرونة ، والسعة ؛ لمواكبة كل جديد وحديث ؛ دون عقول حامليها الذين أساءوا  إليها  ، وجعلوها قاصرة في معاصرة العصر  ، فرسموا لها حدوداً  ، وأسواراً من ضعف تفكيرهم ، وخمول أحلامهم . فكانوا  سفراء سوءٍ ، ومحامين فشلة لقضية عادلة .    نعم، الخطاب الدِيني أصل الداء .ّ !

التدوينة المشاركة في العمل السياسي ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “المشاركة في العمل السياسي”

إرسال تعليق