طرابلس اليوم

الخميس، 28 سبتمبر 2017

 سـلـطـان العـقـل الجـمـعي

,

أحمد الدايخ/ كاتب ليبي

كي يكون الإنسان أهلاً لتلقي الخطاب الإلهي  ويأخذ بعهدة التكاليف الشرعية  لابد و أن يمتاز  بالمنحة الربانية  المسماة ( العقل) ، ولشرف العقل وعظيم منزلته حصل الجدل حول كثيرٍ من قضاياه  فاختلفت كثير من المدارس الفكرية الشرعية في أول  الواجبات الشرعية  ومنهم من نص على أنها النظر والتفكر، والتفكر هو مهمة العقل الأولى  .
وقد اختلف العلماء في منح الصلاحيات للعقل ، فأعطاه بعضهم  القدرة على الاستقلال بالتشريع ، واستئناف بعض الأحكام ،  و قلص بعضهم دوره إلى حد الجمود على المنصوصات ، ومهما يكن من أمرٍ فإن العقل مُستودع الوحي ؛ لذا شرفت العلوم التي يعمل فيها العقل وامتازت على غيرها ، وقد قال ابن تيمية  :  “إن الرسل تأتي بمحارات العقول ، لا بمحالات العقول ” !!
وبعيداً عن كل شيء فإن العقل هو المحرك  الذي يحتاج منا أن نوقده ونستحثه على النظر والتبصر والاستدلال واتباع المناهج المنطقية لبناء الحقائق والقناعات .

قد يلغي الإنسان عقله ويتنازل عن تفكيره وتتلاشى معرفته وعلمه وقدرته على الفهم وسط الجموع وذلك عندما تتنادى الجموع بطريقة فوضوية ويعلو الصراخ واللا منطق ويظهر ما يسمى بالعقل الجمعي وهو طريقة تفكير غائمة عائمة  تسيطر على الأذهان ، فتسلب الفرد القدرة على التفكير المنطقي المنّظم ، ويقع بسهولة تحت تأثير أفكار منتشرة هلامية يؤمن بها لا تستند على دليل أو فكر أصيل أو منطق سليم ، وأخذه بها ما هو إلا نتيجة لإيمان من حوله بها ، في حالة أشبه ما تكون بالوباء العقلي .
) تعالى يقول   قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَة أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا(
في هذه الآية دعوة للإنسان بأن يختلي بنفسه ، وأن يقوم فرداً يفكر بإرادة حرة .
لكي يستطيع أن يقرر بعيداً عن العقل الجمعي وثقافة القطيع التي تفرض عليه مسلمات بعيدة عن الأسس العلمية والقواعد الصحيحة فيردد مقولاتها دون وعي منه ويصاب بمعظم آفاتها ويتشرب الغث والسمين   .

تناول عالم الاجتماع دور كايم هذا الموضوع  بشيء من التفصيل في نظرية “قهر العقل الجمعي” حيث أكد أن الظواهر الاجتماعية والأحداث الخارجية التي تحيط بالفرد بالمجتمع تشكّل تصورات نفسية ، وتؤدي بالنهاية إلى وجود شعور أو (عقل جمعي) له خواصه الذاتية التي تفصل بينه وبين الشعور الفردي فصلاً تاماً ، وتلعب هذه التصورات دوراً ضاغطاً على الفرد ، مغيّرة من تصرفاته وسلوكياته ، بما يتفق مع الشعور الجمعي السائد.
صحيح أن الفرد يدين لبعض حاكمية  العقل الجمعي في تهذيب النفس وأحياناً في خلق الإبداع والنشاط الإنساني الناشيء من التأثيرات الاجتماعية للمجتمع ، ولكن هذا ليس مسوغاً بأن ينجر وراء كل ما تحمله أمواجه العاتية من غير تدقيق و تمحيص لما يُعرض عليه ، إذ أن السلبيات في التأثر بالعقل الجمعي كثيرة وكبيرة جداً قد تصل إلى حالة العدوى وإيذاء النفس في كثير من الأحيان  كما يقول كايم أن أحد أسباب انتشار الانتحار هو  العقل الجمعي  .
وفي هذا أيضاً يقول غوستاف لوبون مؤلف «سيكولوجيا الجماهير» إن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير، فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية ، ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بصورة سلبية  يمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فإن الاختلاف معدوم غالبا ، أو قل: إنه ضعيف جد» .
وهنا تأتي كثير من الأدوات غير الأمـينة لتخلـق وعياً جمعياً في مجتمعنا الليبي وتعمل على صياغة عقل جمعي يشكل وعي المواطن وتصوره تجاه القضايا السائدة ، صانعة منه معارضاً أو مؤيداً لها ، مثال ذلك :  ( القنوات الفضائية ، وسائل التواصل الاجتماعي ، القوى السياسية ، المؤسسات العسكرية ، أذرع الدولة ) تحول المجتمع معها إلى حلبة صراع بين أبنائه ولا نستثني المفكرين والقادة من هذا الانقياد  حيث أننا نراوح في ذات المسائل الخلافية العاطفية الغريزية  والمصلحية ، و نبتعد عن  التفكير والتحاور بشكل سليم بهدف الخروج بنتاج عقلي حقيقي غير  مقولب  .
سيبقى العقل الجمعي مهيمناً على المجتمعات والبشر بسبب الطبيعة الاجتماعية للجنس البشري أساساً  ، ولكن ما يلزمنا هو السعي لإيجاد وسائل حضارية وفعالة لتغيير العقل الجمعي السلبي إلى العقل الجمعي الايجابي ، ونبحث عن المسببات التي أحدثت الفوضى في العقل الجمعي
وأورثت كل  مشاعر الغضب والكراهية في المجتمع التي جلبت صراعات دامية وقع ضحيتها الإنسان البسيط ودفع ثمنها الأبرياء ، فأولى خطوات العلاج تقوم على مراجعة طبيعة علاقة الفرد مع المجتمع وعدم الانسياق إلى التأثيرات السلبية للمجموعات مهما كانت مسمياتها ، والتركيز على بناء الذات وتسخير القدرات للتعايش السلمي البنّاء الذي يخلق بيئة آمنة وسليمة ،  وتحمل تصوراً سليماً لدور الفرد مع الجماعة لا من أجل إلغائه أو تذويبه داخلها  ولكن من أجل أن تخلق منه عقلاً ناقداً مصححاً للمسارات الفكرية التي يعتريها الانحراف .

التدوينة  سـلـطـان العـقـل الجـمـعي ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “ سـلـطـان العـقـل الجـمـعي”

إرسال تعليق