طرابلس اليوم

الاثنين، 16 يوليو 2018

حديث التقسيم في ليبيا

,

أسامة علي

 كثيراً ما تناولت أقلام المراقبين والمحللين للشأن في ليبيا سيناريو تقسيمها، مع عودة الحديث عنه إلى السطح في كل مرة، بناء على أطماع خارجية، لا سيما وهي البلد المليء بالثروات الطبيعية، وموقعه استراتيجي لأفريقيا وأوروبا، لكن كثيرين من هؤلاء لا يعلمون شيئا عن رغبات ليبية داخلية لا تزال كامنة، وإن طرحت رغباتها بخجل، تطالب بالتقسيم والانفصال، تحت عدة مسميات، أشهرها الطرح الفيدرالي.

كثيرة هي كتب الجغرافيا والتاريخ التي تحدثت عن الفتح الإسلامي لـ “ليبيا”، وجوانب أخرى من تاريخها، لكنها دراسات جاءت بعد أن تأطرت البلاد داخل الكتلة الجغرافية السياسية الحالية، فقبلها كانت البلاد معروفةً بحسب الأقاليم، ومختلفة في ولاءاتها وتبعياتها بين مركزي الاستقطاب الكبيرين في الغرب والشرق (إفريقية ووادي النيل)، وحتى إلى الجنوب أيضا، وأول وجود جغرافي لها مقارب لجغرافيتها الحالية كانت في عهد حكم القرمانليين بين عامي 1711 – 1835م، وأحيانا خلال حكم العثمانيين في دولتهم الثانية في ليبيا بين 1835 – 1911م. وإثر الغزو الإيطالي لليبيا، وجدت المكونات السكانية هذه الرقعة الجغرافية نفسها مجتمعةً حول هدف واحد، تمثل في مقاومة هذا الغازي، ليكون ذلك الدافع العامل الأول الذي جمعها، على الرغم من محاولات تقسيمها إلى أقاليم ثلاثة (فزان وطرابلس وبرقة) في أكثر من مناسبة. لكن ما بعد الحرب العالمية الثانية وجه ذلك الدافع الذي وحد البلاد زعاماتها إلى سعي سياسي حثيث، انتهي باستقلال البلاد عام 1951.

تلك مقدّمة تاريخية، أبرزت ميزات وقواسم مشتركة بين مكونات البلاد، لكن جانباً خفياً قد يكشف حقيقة أساسات الصراع المندلع منذ سنوات على كل الأصعدة، ويتمثل في عدم سعي الآباء المؤسسين للبلاد، قبيل استقلالها، إلى بنائه على عقد وطني، يتلوه عقد اجتماعي، يكون أساسا للتعايش بين مكونات البلاد، فحتى دستور البلاد المؤسس لليبيا الحديث عام 1951 لم يتوفر على مواد كافية تكفل تعايش أطيافها السكانية والقبلية، وما أشيع وقتها عن توصل القادة في عهد المملكة، بزعامة الملك إدريس السنوسي، إلى تعديل الدستور 1963، وإلغاء الفيدراليات الثلاث التي تكونت البلاد على أساسها لم يكن صحيحا، فالقرار صدر من مجلس النواب، على خلفية ضغوط مارستها دول أجنبية تستثمر في النفط الذي اكتشف في السنة نفسها، وكانت تواجه تلك الدول صعوبةً في التعامل مع ثلاث إدارات، ويتطلب عملها مخاطبة حكومة مركزية واحدة، قبلت بها الأقاليم الثلاثة، على أساس المحاصصة الجغرافية.

في تلك الآونة، كانت الهويات في أغلب بلاد العرب تحتضر، وتكاد تختفي على أساس المد القومي، بمفاهيمه ونظرياته الداعية إلى عروبة الأمة كاملة، ونالت ليبيا نصيبها وقت الانقلاب العسكري الذي قاده معمر القذافي عام 1969، وأجهز على ما تبقى من أملٍ كان يحدو بعضهم ممن تفطّنوا إلى أهمية مشروع وطني، ينتج عقدا اجتماعيا للتعايش في البلاد، برز على يد آخر رئيس وزراء حكومات عهد المملكة، عبد الحميد مازق، الذي حمل اسم “مشروع الشخصية الليبية”.

لم تستطع الفواعل الداخلية مقاومة المد القومي الذي اكتسب زخما كبيرا في عهد القذافي، وعهود الأنظمة السياسية الأخرى التي قادها عسكريون في أغلب البلاد العربية، لا سيما مع اشتعال المعركة ضد العدو الإسرائيلي، فطغت الشخصية العربية لشعوب المنطقة على كل الشخصيات والهويات الوطنية لهذه الشعوب.

وحيث إن الهوية القومية العربية كانت مشروعا معلقاً على آمال مستقبلية، كانت أقرب إلى المثال منه إلى الواقع، كتحقق الوحدة العربية الكاملة، كانت فواعل الأطياف الداخلية التي توصف عادة بالأقليات تتحفز للصعود وإعلاء الصوت، على الرغم من أن نظام القذافي كان يفرض هوية مزورة بقوة السلاح والترهيب، سعت إلى إلغاء تنوع البلاد واختلافها، أثبت عكسها الظهور السريع للأقليات الثقافية في البلاد، بعد أيام من بدء الثورة ضد نظامه عام 2011.

أسفر القناع عن وجه آخر لليبيا، وهو أنها بلاد تعج بالإثنيات، بل وبالمذاهب التي كانت خاملة سنوات، بل وأكثر، لقابليتها لاستقبال التيارات الفكرية من الخارج، فإلى جانب الأمازيغ والطوارق والتبو والمور، ظهرت مسمياتٌ أخرى، منها ليبيون ذوو أصول أوروبية ومالطية والكراغلة والكريتيون والزنوج والجرامنة. وبالإضافة إلى المذهب المالكي والتيار الصوفي عميق الجذور في البلاد، انفتحت البلاد على التيارات السلفية بكل أشكالها، وتم إحياء المذهب الإباضي مذهبا تاريخيا رسميا للأمازيغ، ونشطت حركات الإسلام السياسي، كالإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وجماعة التبليغ، بل وطالب جهارا نهارا يهود من أصول ليبية بحقهم في العودة إلى بلادهم.

أدار قادة المراحل الانتقالية ما بعد عام 2011 البلاد بارتجال، ما فاقم مشكلة الاختلاف للتحول إلى صدامٍ، لم تخل منطقة في البلاد من أن تكون مسرحا له، ففي مرزق وأوباري وسبها والكفرة جنوب البلاد كانت الحرب قبليةً على أساس أحقية هذه الهوية أو تلك. وفي الغرب بين مصراته والزنتان حول أحقية كل منهما بالسيطرة على طرابلس وقيادة البلاد سياسيا وعسكريا. وفي الشرق بين أطياف مسلحة مكونة من الثوار ومسلحين إسلاميين ضد حكم العسكر الذي تزعمه اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي لعب على وتر الجهوية الفيدرالية بامتياز، ثم على أحقية الشرق في الانتفاع، قبل غيرهم، بموارد النفط الذي ينبع من تحت أراضيهم، ما جعل البلاد في حالة من الاضطراب الأمني، هي أشبه بالحرب الأهلية، تبعتها حالة التخبط الإداري والمركزية وضعف السلطة السياسية وهشاشتها. وبدلا من مناقشة البرامج السياسية والاقتصادية، تجزأت مكونات البلاد إلى اتجاهات تمتلك كل منها وسيلة إعلامية، تطرح من خلالها جهارا قضايا التعصب الديني والطائفي، وكأنها دولة طوائف.

بات جلياً أن أساس حل المشكل الليبي الانخراط في حواراتٍ مجتمعيةٍ موسعة، بعد أن ملّ الجميع سيلان الدماء والتشتت والتدخل الخارجي وسرقة الثروات، حوار يضم كل الأطياف والإثنيات والجهويات، للقبول بالآخر والخروج بعقد وطني، ثم اجتماعي، للتعايش، ويؤسّس عليه دستور البلاد، حتى لا يعاد سيناريو ليبيا إثر تأسيسها عام 1951م.

العربي الجديد

التدوينة حديث التقسيم في ليبيا ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “حديث التقسيم في ليبيا”

إرسال تعليق