طرابلس اليوم

الثلاثاء، 19 سبتمبر 2017

مهاجرة من بؤس الفقر في بلدها الى جحيم السجن في ليبيا

,

عبدالمنعم الجهيمي/ صحفي من سبها

“الأسوار قصيرة والنوافذ مفتوحة والأسقف متشققة ولكننا لن نهرب من هذا المكان” هذا ما تردده “مونكي” الفتاة الإفريقية ذات التسعة عشر ربيعاً والمحتجزة في سجن مؤقت بحي عبد الكافي يملكه أحد كبار مهربي البشر في سبها. لم يكن “مونكي” اسمها بل كانت فاطمة، غير أن المهرب الذي اختارها ضمن مجموعة من الفتيات المهاجرات أطلق عليها اسم “مونكي” من قبيل الاستهزاء بمظهرها، ولكنها تقول إنها تعودت على الاسم وصارت تستسيغه، لأنها على كل حال لم تعد فاطمة التي جاءت إلى هذا المكان طمعاً بالوصول إلى أوروبا.

مونكي نحيلة الجسم بشكل ملفت حتى إن عظام وجهها بارزة، وعيناها غائرتان، ترتدي ثوباً يبرز نحولة جسمها تظهر منه ساقاها ويداها وكأنها عظام مكسوة بالجلد لا لحم فيهما، توزع الابتسامات وتدور بشكل متكرر بين الجالسين في باحة السجن مرددةً بشيء من العبط “أنا مونكي.. أنا مونكي”، علمت بعد ذلك أنها تتصرف هكذا بناءً على أوامر المهرب، الذي يريد إضحاك ضيوفه من زملاء المهنة وزبائنها.

بعد نقاشٍ مضنٍ مع المهرب وافق أن اتحدث مع الفتاة واسمع منها دون أن يكون حاضراً، ولم تكن هي تملك خيار الرفض أو القبول، فقد أمرها المهرب بقسوةٍ أن تتحدث معي وأطاعت، كانت نظراتها مليئة بالريبة، فهي تعتقد ربما أن كل من يأتي مع المهرب يشبهه.

دخلت للسجن وهو عبارة عن منزل كبير وقديم، يوجد في البداية ساحة كبيرة تفتح عليها عدة غرف للمشرفين، وهم غالباً ما يكونون من المهاجرين الأفارقة، وحسب ما فهمت من مونكي فالمشرفون “شديدو المراس، ولا يملكون أدنى درجات الرحمة، وأغلبهم يمارس القتل والتعذيب”، تتحدث الفتاة معي وهي تتحاشى النظر إلى المشرفين رغم بعد المسافة التي تفصلنا عنهم، تقول إنهم كانوا أول من استقبلها في هذا المكان الذي تُحتجز فيه منذ أشهر. مع بداية صيف 2017 دخلت مونكي إلى ليبيا عبر الصحراء صحبة عدد من المهاجرين القادمين من مالي، وعند وصولهم مدينة القطرون أول المدن الليبية من ناحية الجنوب أجبرت على ممارسة الدعارة مع عدد من المهاجرين، لسداد ما قيمته 2000 دينار ليبي، تقول “لم أعلم لماذا فرض علي هذا المبلغ، ولكنني لم أستطع الرفض في بادئ الأمر خاصة أني لا أعرف البلاد جيداً، كان علي أن أكون مطيعة بعد أن شاهدت القتل أمامي”. تواصل مونكي حديثها وهي تدخل معنا الممر الرئيسي داخل السجن، وهو ممر غير مسقوف تفتح عليه ست غرف من الجانبين، أرضيته متسخة ورائحته غريبة، تقول مونكي إنها دخلت السجن هنا بعد أن رفضت الاستمرار في العمل بالدعارة أوائل يوليو 2017، وعادة ما تُحتجز الفتيات هنا لفترات مجهولة لتأديبهن حسب ما سمعته في السجن.

تسمع الأخريات من المحتجزات في السجن حديثي فيسترقن النظر من نوافذ حجراتهن المطلة على الممر، لم اتمكن من الحديث إليهن فهن لا يملكن الإذن بذلك، ولكن مونكي كانت تخبرني عن قصص الكثيرات ممن غادرن هذا المكان، حيث تحدثت عن إحداهن توفيت قبل يومين في عملية إجهاض على يد معالجة شعبية، وعن أخرى لفظت أنفاسها وهي تضع مولوها داخل السجن، ومحتجزة فقدت عقلها بعد أن طال حبسها في سجن انفرادي. وصلنا أخيراً للزنزانة التي تقيم فيها مونكي، وهي حجرة صغيرة لا يوجد بها أسرة أو أغطية أو فرش، إضاءتها ضعيفة بشكل تصبح معه الرؤية صعبة كلما توغلنا فيها. جلست مونكي على الأرض مستندة إلى الحائط ولم تكترث بدعوتي للجلوس، تواصل حديثها عن سجنها قائلة إن المهرب أجبرها على شرب الكحول وإدمان حبوب مخدرة لم تعرفها، “صرتُ أقوم بأشياء غريبة، أحياناً يناديني في الصباح ليريني مقاطع فيديو لي بالليل، وأنا أشاهدها وأستغرب الذي أراه”.

حين سألتها لماذا لا تهربين؟ قالت بتهكم: “إلى أين أهرب!!؟، أنا لا أعرف أحداً في هذه المدينة، وسيكون العثور علي سهلاً للغاية، وقد يكون عقابي الموت”. في السجن المؤقت الذي يعرف في المدينة باسم صاحبه تعيش 29 فتاة وشابان عدا المشرفين المسؤولين عن سير الأمور بالداخل وجميعهم من جنسيات إفريقية مختلفة، كان المهرب  سعيداً بوجود كل هؤلاء المحتجزات في سجنه، وكان يتحدث عنه بفخر وكأنه يصف مؤسسة متكاملة.

مهام المشرفين تتوزع على واحد يسجل المحتجزات، وآخر يوفر لهن الأرز وهو الطعام الوحيد الذي يحصلن عليه، ومشرف يتابع تنفيذ العقوبات التي تصدر بحق المخالفين، ومجموعة تختص بتنفيذ الأعمال الخارجية من جلب وتهريب المهاجرين ورمي الجثث، انتهاءً بالمعالجة الشعبية وهي مهاجرة من النيجر مسؤولة عن عمليات الإجهاض والكشف عن الحوامل والفتيات العذراوات.

سجن الحي مخصص للمهاجرات اللواتي يقع اختيارهن لممارسة الدعارة وللفتيات المسترقّات بانتظار بيعهن، الحياة فيه بائسة وسمعته سيئة ولا يتمتع بأية شروط تسمح باستخدامه من قبل البشر، تغفل أو تتغافل عنه السلطات المعنية فهو يقع خارج نطاق سيطرتها، كما صارت مآسيه من القصص العادية لدى أهل المدينة العاجزين عن اتخاذ موقف حيال صاحبه الذي يحميه انتماؤه القبلي.

تركت مونكي جالسة في زنزاتها تنتظر مصيراً مجهولاً، فحلمها بالوصول لأوروبا اصطدم بواقع مرير تعيشه محتجزة في سجن جنوب ليبيا، وصارت تقنع بالسلامة وتتمنى أي تغيير لا يتضمن البقاء في ليبيا حتى ولو كان العودة لبلدها.

التدوينة مهاجرة من بؤس الفقر في بلدها الى جحيم السجن في ليبيا ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “مهاجرة من بؤس الفقر في بلدها الى جحيم السجن في ليبيا”

إرسال تعليق