طرابلس اليوم

الجمعة، 15 سبتمبر 2017

حكاية رجل عجوز (الجزء الثالث والأخير)

,

آية دخيل/ كاتبة ليبية

تحدّث الرّجال عن صبيّة، وناقشوها كقضية، بكلّ حماس وصخب، ثم صاح المحاسب فيهم وهو يلوّح بسيجارته غاضبا..
“كيف لنا أن نسمح لهذه المهزلة بأن تستمر وتعشعش بيننا، وكيف من الممكن لنا أن نرفع رؤوسنا بعد أن أراقت تلك العاهرة شرفنا نحن الرّجال” ثم خبط بيده الطاولة بكل عنف، وعاد لسيجارته الّتي خلطها بشيء ما جعل لها رائحة النعناع اليابس
لم يجب على سؤاله أحد، لكنّ نائب المدير أكدّ على كلامه قائلا.. “أنا لا يمكن لي أن أعمل في مكان تشاركني هي فيه، هذه القذرة” وبصق على الأرض مفتعلا التّقزز، ثم استطرد “عندي سمعة أحفظها و أخاف عليها”، ونظر في عيون الآخرين ليرى ردود أفعالهم قلقا في داخله، “لكنّها جميلة” زغرد موظّف آخر بصوته المترنّح كما هو نفسه، مداريا سكره، وهو يتجشّأ خمرة البارحة..
وافقوا على كلامه بصمتهم، لكنّ كل واحد فيهم تركها لنفسه، مقلّبا إياها على نار قلبه، محتفظين بمظاهرهم الّتي أعدوها لهذا الموقف سلفا، خشية أن يظنّ بهم الآخرون الظّنون، سنشكوها للمدير، بل سنشكوها لوالدها، ما الّذي قد يفعله المدير، إن والدها سيذبحها في ليلة غير ذي قمر، قالها الجميع.. كلّ بصوته، وعلى هذا استمر الحديث، كلّ واحد فيهم يجاري الآخر ويزيد عليه مما في جعبته من أقبح النّعوت والألفاظ يرمون بها الموظّفة الّتي تعمل معهم، يراقبهم خليفة، حائرا، وخائفا، من زمرة الذّئاب الّذين تشكلوا في قوالب بشرية، يتربّصون ببناته أيضا.. ولمّا ألقى الصمت بعباءته عليهم، نقر أحدهم الطاولة بأصابعه مفكّرا، وبدا كما لو أنه لا يجد من الكلمات ما يعبّر به، وبان عليه القلق، كمن يخفي في نفسه حديثا يخاف لو يظهره، لكنّ نظرات الآخرين استحثّته، ودفعته، وحرّضته، على أن يلقي بدلوه هو الآخر، إنها صبيّة وجميلة كما تقولون، نطق فيهم بصوت حاول أن يجعله هادئا ومحايدا، لكنّني للحق لا أعرفها، ولم أرى ما قد يدفعكم لنبذها وطردها، والأسوأ من ذلك، أن تشكوها لوالدها الّذي لا يعلم عنا شيئا، ولا حاجة له بأن يعلم، إنني أرفض أن أتورّط في عمل شنيع كهذا، وإن كان قراركم قائما لا محالة، فالأفضل أن يكون من دوني، لا يعنيني أمركم أو أمرها، أنهى كلامه بصوت يرتجف، ارتجف معه قلب خليفة القهواجي هو الآخر، أحسّ أنّ أحدا ما انتصر للمتهمة، وإن لم يكن بالطّريقة الّتي أرادها، وتمنّى في أعماقه لو أنّ له لسانا ينطق، لسانا يصفع كلّ الحمقى الّذين يصبّ لهم قهوتهم، غير أنّ الإنتصار لم يدم طويلا، فلقد تفرّقت زمرة الموظّفين على اتفاق واحد، أن يكونوا صباح الغد شاهدين على ذبحها ونتف ريشها..
لم يكن هناك أحد في حاجة بعد لقهوته، فالنهار يكاد ينتصف، والموظفون انسابوا خارج الشّركة كعقد انفرط، واحدا واحدا، وأراد خليفة أن يقفل إلى بيته عائدا لعشه الصّغير، لبناته، مشى مطرق الرّأس وصامتا، يفكّر في ذات نفسه في أحادث اليوم، والشّكل الّذي يكون عليه الغد، وهام في خيالاته وأفكاره الّتي تناغمت مع صوت حذاءه يطرق الأرض الصّلبة، منشغلا بالقصص الّتي يصنعها في رأسه، غير ملحوظ على الإطلاق، وكأنما أيضا لا يعنيه أي شيء أبدا، ثمّ سمع أحذية أخرى تنقر الممر، عندئذ رفع رأسه،  وما هو إلا نائب المدير يهمس: إنهم سيشكونك غدا لوالدك، تعالي معي نناقش الموضوع خارجا، أعدك أنّي لن أدعهم يفعلونها، تعالي لبيتي وما يكون إلا الّذي يرضيك، ولقد ألقى خليفة ببصره عليهم، نائب المدير يزحف وراء الصّبية الّتي بدت تحاول أن تنسحب عنه مسرعة دون أن تلتفت لوجهه، وإذ لم تهتم لأمره لعنها وسبها، والتفت أخيرا لخليفة يحدجه بنظرات الشر والازدراء، ثم انصرف ملتفا بقناعه، واصل خليفة يجرّ جسده إلى خارج الشّركة، دون أن يفكر في أي شيء، حاملا نفسه دون أن يحس أو يشعر، مخدّرا، ثم وصل للباب ورأى المحاسب يحاول اللحاق بالصبية متوددا، وقال لنفسه: يارب ينتهي اليوم على خير، وخرج، لمح في البعيد بقية الموظّفين أيضا، لم يستطع أن ينظر إليهم ولا أن يسمعهم، لكنّه خمّن كلامهم، أغلق عينيه طويلا، وأحس بالعمر ثقيلا على قلبه، كان النهار في نهايته، والشّمس تغرب وراء الأبنية، كما غربت شمسه منذ زمن، وكان هو يدبّ بقدميه العجوزتين نحو المنزل.

التدوينة حكاية رجل عجوز (الجزء الثالث والأخير) ظهرت أولاً على ليبيا الخبر.



0 التعليقات على “حكاية رجل عجوز (الجزء الثالث والأخير)”

إرسال تعليق